في حوار مع التلفزيون الحكومي الروسي أجري معه في نهاية عام 2021، اعترف الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، بعد سنوات من التنصل، بالسيادة الروسية في شبه جزيرة القرم التي ضمّتها موسكو في عام 2014، ملمّحاً إلى إمكانية إعادة نشر الأسلحة النووية الروسية على أراضي بلاده.
أشهر قليلة كانت تفصل العالم حينها عن اندلاع حرب كبرى في قلب أوروبا، على أثر بدء القوات الروسية هجماتها على مختلف مناطق أوكرانيا ليلة 24 فبراير/شباط 2022، بما في ذلك الشمالية منها عبر الأراضي البيلاروسية. وجاء ذلك بعد أن أصبحت مينسك الحليف الوحيد للكرملين في حربه على أوكرانيا، بعد أن ناور لوكاشينكو لسنوات طويلة سياسياً بين روسيا والغرب.
وبعد عام ونيف على بدء الحرب، تتأهب بيلاروسيا اليوم لاستقبال أسلحة نووية تكتيكية روسية، وسط إدانة غربية واسعة وعودة شبح حرب نووية ليخيم على العالم بعد تلويح كبار المسؤولين الروس، بمن فيهم الرئيس فلاديمير بوتين، مراراً، بإمكانية اللجوء إلى "كافة الوسائل" للدفاع عن روسيا وأمنها.
لا "أعمال كالمعتاد" بين الغرب وبيلاروسيا
في كلمة متلفزة إلى الشعب والبرلمان البيلاروسيين أول من أمس الجمعة، أعلن لوكاشينكو عن استعداده لاستقبال الأسلحة النووية الاستراتيجية على أراضي بلاده، بما فيها الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وليس التكتيكية فقط، "إذا اقتضى الأمر". ودعا الرئيس البيلاروسي في كلمته، إلى وقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا، وهي مبادرة لم تحظ بقبول كل من موسكو وكييف.
أليس ميخاليفيتش: الغرب لن يرى خياراً سوى إبعاد لوكاشينكو عن السلطة
ورداً على الإعلان، أعرب معظم أعضاء مجلس الأمن الدولي، أول من أمس، عن قلقهم من خطر انتشار الأسلحة النووية. واعتبر السفير الفرنسي نيكولا دو ريفيير، خلال اجتماع للمجلس دعت إليه أوكرانيا، أن "هذه ضربة إضافية لخريطة الحد من التسلح، وللاستقرار الاستراتيجي في أوروبا، وللسلام والأمن الدوليين".
بدوره، قال نائب السفير البريطاني جيمس كاريوكي: "لنكن واضحين، لم تثر أي دولة أخرى إمكان استخدام أسلحة نووية في هذا النزاع، ولا تهدد أي دولة السيادة الروسية"، معتبراً أن الإعلان الروسي "بمثابة محاولة جديدة للتخويف والإكراه". من جهته، قال السفير البرازيلي رونالدو كوستا فيلهو إنه "لا تمكن معالجة الشر بالشر"، مندداً بـ"السباق نحو القاع الذي لا يضمن سلامة أي شخص، بغضّ النظر عمن اتخذ الخطوة الأولى"، فيما دعت الصين إلى "إلغاء اتفاقات التشارك النووي".
مع ذلك، اعتبر المرشح الرئاسي البيلاروسي السابق، نائب رئيس حركة "من أجل الحرية" أليس ميخاليفيتش، أن نشر الأسلحة النووية الروسية في بيلاروسيا لن يغير شيئاً في العلاقات بين موسكو ومينسك، ولكنه يغلق الباب أمام إمكانية تطبيع العلاقات البيلاروسية الغربية مرة أخرى، وفق اعتقاده.
وقال ميخاليفيتش، الذي خاض انتخابات الرئاسة البيلاروسية في عام 2010، في حديث مع "العربي الجديد": "في كل الأحوال، لوكاشينكو هو سياسي خاضع لموسكو، ونشر الأسلحة النووية على الأراضي البيلاروسية لا يغير شيئاً في العلاقات الثنائية، ولكنه سيبدل أموراً كثيرة في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، حيث تصبح مينسك مصدراً صريحاً لعدم الاستقرار في مسألة جديدة".
ولفت نائب رئيس حركة "من أجل الحرية" إلى أن نشر مزيد من الأسلحة النووية على مقربة مباشرة من بضع عواصم أوروبية هو مسألة ستكون لها معنى جوهري بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا.
وحول رؤيته للتعامل الغربي مع نشر الأسلحة النووية الروسية في بيلاروسيا، أوضح ميخاليفيتش أنه "قبل ذلك، كانت تصدر رسائل (من الغرب) إلى مينسك مفادها أنه تمكن مسامحتها والعودة إلى مقاربة "الأعمال كالمعتاد" (Business as usual) في حال لم تنخرط بشكل أعمق في الحرب في أوكرانيا. لكن بعد نشر الأسلحة النووية، سيصبح ذلك مستحيلاً، ولن يرى الغرب أمام نفسه خياراً سوى إبعاد لوكاشينكو عن السلطة وانسحاب القوات الروسية من بيلاروسيا".
ضغط نفسي لا عسكري
وبرأي الخبير في مركز بحوث قضايا الأمن التابع لأكاديمية العلوم الروسية قسطنطين بلوخين، فإن قرار نشر الأسلحة النووية الروسية في بيلاروسيا لم يكن مفاجئاً، لكنه أشار إلى أنه يندرج ضمن الضغط النفسي على الغرب أكثر من كونه تصعيداً عسكرياً.
وأوضح بلوخين، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "لا يمكن وصف نشر السلاح النووي في بيلاروسيا بأنه مفاجئ، لأنه حتى قبل بدء العملية العسكرية الخاصة، تحدث لوكاشينكو عن هذه الإمكانية في حوار مع الإعلامي الروسي ديميتري كيسيليوف أثار ضجة كبيرة حينها، وكانت رسالته مفادها أنه في حال لم يتوقف الضغط على روسيا، فسينشر سلاح نووي في بيلاروسيا".
واعتبر بلوخين أن قرار روسيا يأتي رداً على الضغوط الغربية. ووفقاً للخبير الأمني، فإن "الضغط مستمر عن طريق إرسال قاذفات استراتيجية من طراز بي - 52 أو مسيّرات إلى حدودنا تارة، أو إجراء تدريبات بالقرب منها تارة أخرى، ما لم يترك أمام روسيا وبيلاروسيا من خيار آخر سوى نشر السلاح النووي".
تيموفيه بورداتشوف: ترسانات أميركية مماثلة ترابط على أساس دائم في دول الناتو
ولفت بلوخين إلى أن نشر السلاح النووي في بيلاروسيا يحمل في طياته رسائل سياسية رمزية أكثر منها عسكرية، قائلاً إنه "في ظروف حيازة روسيا أسلحة فرط صوتية قادرة على اختراق جميع النظم للدفاع المضاد للصواريخ، فمن الواضح أن هذه رسالة ضغط نفسي على الغرب ومؤشر لوضع العلاقات الروسية الغربية التي دخلت "حرباً باردة" جديدة، ومفادها أن روسيا لا تتنازل عن المنافسة مع الغرب، بل تراهن على المواجهة بلا حلول وسط".
اقتراب من نظام عالمي جديد
واعتبر المدير في نادي "فالداي" الدولي للنقاشات، تيموفيه بورداتشوف، أن "رد فعل واشنطن وحلفائها الأوروبيين هو أقل ما يجب أن يشغل روسيا في مسألة نشر الأسلحة النووية الروسية على أراضي بيلاروسيا ذات السيادة".
وفي مقال بعنوان "السلاح النووي في بيلاروسيا يقرّب النظام العالمي الجديد"، نُشر في صحيفة "فزغلياد" الإلكترونية الموالية للكرملين، لفت بورداتشوف إلى أن "ترسانات أميركية مماثلة ترابط على أساس دائم في عدة دول أعضاء في حلف الناتو" مثل بلجيكا وألمانيا وإيطاليا وتركيا، متوقعاً أن تنقل الولايات المتحدة مثل هذه الذخائر إلى بولندا، وهو ما كان سيحدث في جميع الأحوال، برأيه.
وأضاف كاتب المقال أن الولايات المتحدة "تفعل دائماً ما تراه مناسباً، ولم تقيّد نفسها أبداً بقواعد اللعبة الرسمية وغير الرسمية"، لافتاً إلى أن "ظهور قوات نووية على أراضي الحليف العسكري الرئيسي لروسيا هو مسألة داخلية بامتياز لدولة الاتحاد"، القائمة بين روسيا وبيلاروسيا منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، والمؤسسة لدرجة عالية من التكامل بين البلدين.
لا انتهاك لمنع الانتشار
وأعلن بوتين، في نهاية مارس/آذار الماضي، أن روسيا ستنشر بناء على طلب الجانب البيلاروسي أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا، مثل ما تفعل الولايات المتحدة، ومنذ زمن، على أراضي حلفائها.
وقال بوتين في حديث لقناة "روسيا 24" الحكومية الروسية: "حتى خارج سياق هذه الأحداث والتصريح (حول احتمال توريد بريطانيا ذخائر مزودة باليورانيوم المنضب إلى أوكرانيا)، يطرح ألكسندر لوكاشينكو منذ مدة طويلة مسألة نشر أسلحة نووية تكتيكية على الأراضي البيلاروسية".
وشدّد الرئيس الروسي على أن هذا الأمر "ليس غريباً"، مضيفاً أن "الولايات المتحدة تفعل ذلك منذ عقود، وقد نشرت أسلحة نووية تكتيكية في الدول الحليفة والناتو وأوروبا، وذلك في ست دول هي ألمانيا وتركيا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا واليونان. ليس في اليونان الآن، ولكن هناك مخزناً".
وتابع بوتين: "اتفقنا (مع بيلاروسيا) على فعل ذات الأمر من دون انتهاك، كما أشدد عليه مرة أخرى، بالالتزامات الدولية في منع انتشار السلاح النووي"، في إشارة إلى أن الأسلحة النووية الروسية المزمع نشرها في بيلاروسيا لن تُوضع تحت إدارة مينسك.
يذكر أن تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991 جعل بيلاروسيا، شأنها في ذلك شأن أوكرانيا التي سلّمت ترسانتها النووية لروسيا بموجب مذكرة بودابست المؤرخة في عام 1994، دولة نووية بشكل مفاجئ بحيازتها نحو 80 صاروخاً استراتيجياً لمنظومة "توبول" وأكثر من ألف رأس حربي تكتيكي، تخلت عنها جميعاً عن طريق الانضمام إلى معاهدة منع انتشار السلاح النووي في عام 1993.