أبرز السجال البرلماني السويدي أخيراً، بعد مساهمة اليسار في حجب الثقة عن حكومة يسار الوسط فيه، اسمين في معسكري اليسار والليبراليين، نوشي (ميهرنوشي) دادغستار ونيامكو آسولي سابوني. وتقود الشخصيتان حزبي "اليسار" (يساري اشتراكي) و"الشعب الليبرالي". ودادغستار البالغة من العمر 35 عاماً، ولدت لأبوين لاجئين من إيران في معسكر لجوء سويدي عام 1985. انخرطت مبكراً في شبيبة حزب "اليسار"، وتدرجت في المناصب الحزبية، وقادت حملة عام 2012 لمنع خصخصة ثلاثة ألاف شقة في ضواحي العاصمة استوكهولم، وأصبحت عضواً في البرلمان منذ 2014، وانتُخبت العام الماضي زعيمة للحزب.
أما سابوني فهي ابنة لاجئين من زائير سابقاً، الكونغو الديمقراطية حالياً، ولدت في بوروندي عام 1969، ووصلت إلى السويد عام 1981. تبوأت مناصب وزارية منذ عام 2011، مثل "الدمج والمساواة" و"التعليم". نافست على زعامة حزبها "الشعب الليبرالي" وأصبحت زعيمته منذ 2019. وعلى الرغم مما أثارته من جدل، بسبب انفتاحها على التعاون البرلماني مع الحزب الشعبوي "ديمقراطيو السويد"، إلا أنها أثبتت حضورها البراغماتي في السياسة المحلية. وتبدو خطوات السيدتين ناجحة في ظلّ محاولة الحركات اليمينية المتطرفة في السويد، خصوصاً "جبهة مقاومة الشمال" العنفية (نازية جديدة)، وتحريضها على من هم من أصول غير إسكندينافية، يشقّ كثيرون من غير تلك الأصول طريقهم في المجتمع. والقائمة تطول بأسماء أصول عربية وتركية مندمجة سياسياً في بلد يسارع الخطى للاستفادة من طاقات شبابية، وسط سجال عام عن شيخوخة المجتمعات الغربية، وتراجع نسبة المواليد فيها، كما أوضح بحث أخير لمركز "بيو" للأبحاث.
هذا النموذج السويدي في التعاطي مع "المواطنين الجدد" (وهو مصطلح رسمي للقادمين إليها) لم يظهر فجأة، بل مرّت البلاد في عملية تنقيح ثقافي وسياسي، طاول حتى أدب الأطفال عن "الزنوج" عند الأديبة الراحلة أستريد ليندغرين. في المقابل، تغرق الدنمارك في خطاب سياسي ـ إعلامي مقيت عن "الأجانب"، كما يطلق عليهم السياسيون ولو من الجيل الثاني. ففي حين تحاصر استوكهولم، بالثقافة اليومية والممارسة السياسية، الحركة الشعبوية تضيع كوبنهاغن الوقت وتهدر الطاقات في التنافس على مصطلحات "غيتو" و"غرباء" و"جيل ثان وثالث".
إجمالاً، فإن نموذج استوكهولم يوضح إلى أي مدى من الممكن لدول المواطنة والقانون أن تستفيد في مسار العمل على مستقبل مجتمعها، وتضامنه لترسيخ قوة التعددية في إثراء حقيقي للمواطنة، بعيداً عن تنميط العنصرية والأحكام المسبقة. واللافت في الحالتين السويدية والدنماركية ذهاب استوكهولم، رغم كل منغصات انفلات بعض شباب من أصول مهاجرة في عصابات ضواحي بعض المدن، إلى لغة المواطنة، بينما تصر كوبنهاغن على النبش في تعريف المواطنة بناء على الأصل العرقي. بالتالي ليس غريباً، ومن على منبر البرلمان الدنماركي، التحريض على أجيال ولدت وكبرت في المملكة باعتبارهم "ليسوا دنماركيين، وإن ولدوا هنا وحملوا الجنسية"، كما يلتقي ساسة حزبي "الشعب الدنماركي" و"البرجوازية الجديدة" الشعبويين، دون تنديد من رئيسة حكومة "الاجتماعي الديمقراطي" ميتا فريدركسن.
وما يفرق الثقافة السياسية في استوكهولم وكوبنهاغن أنه في الأخيرة يتلمس يسار الوسط الحاكم الخطاب القومي المتعصب، وعلى لسان رئيسة الحكومة فريدركسن، إرضاء للناخبين، فيما في استوكهولم يصبح أمراً طبيعياً وعادياً جداً أن لا يكون اسم وهيئة وخلفية قيادتين نسويتين لحزبين سياسيين جوهر القضية، بل مساهمتهما في تحقيق مصالح البلد ومستقبل المجتمع.
تخسر كوبنهاغن أيضاً سنوات كثيرة، مثلما تخسر طاقات وإمكانات جيلين، بعد نحو 60 سنة من هجرة اليد العاملة إليها، ولدا وكبرا وسط ثقافة مجتمعها وقيمه، بإصرار بعض معسكرها السياسي على خطاب تهميشي وحاطّ من قيمة المواطنة، لمصلحة استدعاء متكرر لخطابين سياسي وإعلامي يؤدي لمزيد من الغرق في لون واسم ودين مواطنيها، والجزم بـ"استحالة اندماج الشرق أوسطيين" في المجتمع الدنماركي.
الخسارة الدنماركية، في الإصرار على خلق فرز واستدعاء ما يشبه حالة انصهار شبه مستحيلة، تضع هذا البلد في ذيل قائمة الدول الإسكندينافية (السويد، النرويج، الدنمارك، فنلندا، أيسلندا) والسير عكس قيم ونماذج تطبقها السويد وإلى حد ما النرويج.
انتهازية الطبقة السياسية، ومن بينها يسار الوسط (الاجتماعي الديمقراطي)، بالتأكيد ليست حالة دنماركية بل أوروبية عامة، وسط مأزق هذا المعسكر في محاباة الخطاب القومي المتشدد ورومانسية "المجتمع ـ الأمة" المتجانس بتبني خطاب الشعبوية السياسية في القارة العجوز.