في تكرار شبه مطابق لما حدث في أزمة مخالفات البناء صيف 2020، أمر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع الفريق أول محمد زكي بالنزول إلى القرى والمدن، إذا لزم الأمر، لمواجهة ظاهرة التعدي على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة المختلفة من أراض ومرافق مثل الترع والمصارف وغيرها. ولم يوضح حدود مشاركة الجيش في هذه الحملة التي ستستغرق ستة أشهر، فيما وجّه بمنع الدعم مؤقتاً عن المخالفين.
وجاءت أوامر السيسي خلال افتتاح محطة مياه، والتي قال فيها إن هذه الاعتداءات كان يمكن السكوت عليها في عهود أخرى وليس العهد الحالي، في نقد ضمني لعهد الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك. كما وجّه انتقاداته لوزير الري محمد عبد العاطي: "كنتوا فين يا دكتور محمد ما تزعلش مني"، وهو ما يعكس أيضاً أحد وجوه خطابه السياسي الموجه للداخل دائماً، على قاعدة أن كل الإنجازات تُنسب للرئيس والقوات المسلحة، أما التجاوزات والمخالفات فيتم تحميلها للأجهزة الحكومية، من محافظين ومحليات ووزارات قائمة على التخطيط والمرافق والفحص والرصد.
طلب السيسي إزالة كل التعديات خلال 6 أشهر
ولوّح السيسي بـ"نزول الجيش لإزالة التعديات"، فضلاً عن تهديده الآخر للمسؤولين التنفيذيين الذين لا يستطيعون تنفيذ تعليماته بحصر بيانات المعتدين وتقديمها للجهات المكلفة بالإزالة. وقال: "خلال ستة أشهر أحصل على إنجاز إزالة جميع التعديات، وتخطروني شهراً بشهر بما يتحقق من أعمال". وهي عبارات تعيد للأذهان تصريحاته منذ عام تقريباً مخاطباً الوزراء والمحافظين: "إما تكونون رجالاً أو شيئاً آخر"، مع مطالبته المحافظين ومديري الأمن مساعدي وزير الداخلية الذين يفشلون في تنفيذ تلك التعليمات بالاستقالة الفورية.
وذكر السيسي أن الحملة الجديدة ستبدأ لأنه "مش بيعرف يطنش، ولو كان بيعرف كان ساب البلد للمجهول عام 2013"، مستطرداً: "طول مانا موجود في مكاني هتتشال كل حاجة غلط فيكي يا مصر". وتجاهل حقيقة أن النسبة الأكبر من هذه التعديات قد وقعت في السنوات الأخيرة، وليس على مدار 20 أو 30 عاماً كما قال.
أما الأثر التنفيذي لهذه التعليمات، فيرجح مصدر حكومي مطلع في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن يبدأ بتشكيل لجان من الحكومة بإشراف الجيش، لتنفيذ عمليات الرصد على الأرض. ويشير إلى أنه كان من المفترض أن يكون لدى الجيش علم كامل بها أساساً، من خلال الآلية الجديدة لمراقبة المخالفات على مستوى الجمهورية، التي أُعلنت العام الماضي بإسم "منظومة البنية المعلوماتية المكانية" التابعة للقوات المسلحة. وهي منظومة أنفقت عليها الدولة مئات الملايين من الجنيهات لشراء صور فضائية شاملة لجميع المناطق المصرية منذ عام 2011 وحتى الآن، من بعض مقدمي الخدمة العالميين، لتتمكن الآلية من رصد تطور المخالفات يوماً بيوم.
وينوّه المصدر إلى أن الحكومة لا تملك القدرة على إدارة هذه الآلية، علماً بأنه سبق وطالبت بها الوزارات والأجهزة المعنية بالرقابة على الأراضي، مثل وزارات الإسكان والزراعة والسياحة والعدل، وكان هناك مشروع لإنشائها منذ 6 سنوات لتكون تابعة مباشرة لرئاسة الوزراء. ويكشف أن ما حدث هو شراؤها لحساب الجيش وإسناد إدارتها للهيئة الهندسية للقوات المسلحة، بحجة "ضرورتها لمتابعة تقدم المشروعات القومية التي تنفذها". وهو ما يكرّس الوضعية المتميزة للجيش على حساب باقي جهات الدولة، واستئثاره بامتلاك المعلومات والبيانات الحيوية المهمة لأداء مهام كل جهة.
أما النتيجة الأهم للتوجيه بتدخل الجيش فهي فتح الباب أمام الوجود العسكري الكثيف مرة أخرى داخل القرى والمدن الصغيرة، وسيطرته على قرارات المحافظين والجهات الحكومية المختلفة. وتتماشى هذه الخطوات مع ما حدث في ملف مخالفات البناء، الذي يديره حالياً مساعد وزير الدفاع الفريق أسامة عسكر المقرّب من السيسي، وكذلك بحكم إدارة الجيش الدائمة لمشروعات تطوير المرافق في مبادرة "حياة كريمة".
ومن الطبيعي أن تُتبع هذه السيطرة بإحالة المخالفات المكتشفة إلى النيابات العسكرية إمعاناً في سرعة إزالتها وتوقيع العقوبات على المعتدين بأحكام قضائية سريعة وغير دستورية أو شرعية، وذلك قياساً بما حدث العام الماضي، عندما صدرت تعليمات بإحالة المتهمين إلى المحاكمة بسرعة حال عدم تمكنهم من الدفع وبإزالة الاعتداءات. في ذلك الحين، أخبرت النيابات المحامين والمتهمين آنذاك بأن فترة الحبس الاحتياطي في هذه القضايا ستطول، وبالفعل صدرت قرارات إحالة سريعة بالحبس، وكشفت قرارات السيسي بالعفو هذا العام عن ضخامة عدد المدانين فيها.
أنفقت الدولة الكثير على منظومة معلوماتية لكنها لا تجيد إدارتها
وشابت هذه الإجراءات مخالفات عدة، لأن النيابات العسكرية لا تملك المعلومات الكافية عن ملفات القضايا، بسبب عدم وجود أي لجان معاينة قضائية أو محلية يمكن الاعتماد عليها في كل واقعة على حدة. لذلك فقد اعتمدت فقط على محاضر التحريات الأمنية وملفات المخالفات المحالة من دواوين المحافظات، بناء على تقارير المحليات. وتسبب هذا الأمر في قصور كبير بتفاصيل المخالفات، مع إحالة عدد كبير من المخالفات التي تم التصالح فيها بالفعل، لكن لم يتم تحديث بياناتها لدى المحافظات. كما أُحيلت عشرات الوقائع التي تقاعست فيها المحليات عن إثبات الوقائع الجديدة أو امتناعها عن إزالة المباني المخالفة لأسباب فنية، لا يتحمل المواطنون مسؤوليتها.
وتولى القضاء العسكري مهام التحقيق والمحاكمة في تلك المخالفات بتوجيهات تنفيذية من السيسي من دون سند قانوني أو دستوري، بهدف تسريع الإجراءات. لذلك اكتفت الحكومة، ممثلة في وزارة التنمية المحلية المشرفة على المحافظين، بين شهري أبريل/نيسان ويوليو/تموز 2020، بإحالة حوالي 30 ألف مخالفة، معظمها كانت تعديات على أراضي الدولة الصحراوية التي نقلها السيسي خلال الأعوام الخمسة الماضية إلى ملكية القوات المسلحة، فأصبحت في حكم الأملاك العسكرية. أما الاعتداءات على الأراضي الأخرى من زراعية وصحراوية والمملوكة للأوقاف والمحافظات، فكانت تحال إلى النيابة العامة حتى لا تصبح التحقيقات أو المحاكمات باطلة.
وتنصّ المادة 204 من الدستور بعد تعديلها العام الماضي، على أنه "لا تجوز محاكمة مدنى أمام القضاء العسكري، إلا في الجرائم التي تمثل اعتداءً على المنشآت العسكرية أو معسكرات القوات المسلحة أو ما في حكمها أو المنشآت التي تتولى حمايتها، أو المناطق العسكرية أو الحدودية المقررة كذلك، أو معداتها أو مركباتها أو أسلحتها أو ذخائرها أو وثائقها أو أسرارها العسكرية أو أموالها العامة أو المصانع الحربية، أو الجرائم المتعلقة بالتجنيد، أو الجرائم التي تمثل اعتداءً مباشراً على ضباطها أو أفرادها بسبب تأدية أعمال وظائفهم". وهي حالات لم تتوافر في النسبة الساحقة من قضايا مخالفات البناء، لكن يمكن اعتبار حالات التعدي على الأراضي الزراعية والمجاري المائية جزءاً من هذه الحالات، باعتبارها ممتلكات ومرافق عامة.