بيتان من الشعر فحسب ضمّنهما شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكريا في إلياذته الخالدة، التي كتبها قبل أكثر من أربعين عاماً، عن الانقسام الفلسطيني، كأنما كان يرى الحاضر الفلسطيني المتسم بالانقسام وصراعات السلطة والقرار، بدلاً من التكتل في إطار موحد حول مشروع المقاومة. قال: "فليت فلسطين تقفو خطانا... وتطوي كما طوينا السنينا، وبالقدس تهتم لا بالكراسي... تميل يساراً بها ويمينا".
في القراءة السياسية، لم يكن مفدي زكريا يقصد حصراً صراع القوى الفلسطينية في ما بينها على التمثيل والقرار والسلطة والمقومات المادية. ولكنه كان يؤكد بما لا يمكن الشك فيه، أن منجز التحرير يستدعي بالضرورة إعادة إنتاج تجربة التحرر الجزائرية التي لم تتخلص أيضاً من الصراعات والنزاعات بين الحركات والمجموعات السياسية، إلا بانبثاق إطار ثوري موحد (جبهة التحرير الوطني)، انصهرت فيه كل المجموعات الوطنية، على قاعدة وحدة القرار والمصير، وتبنّي البندقية كخيار للمقاومة بعد فشل الخيارات السياسية.
لن يكون كافياً لتحقيق المصالحة الفلسطينية، أن تتسلح الجزائر بتلك الرغبة السياسية الخالصة من كل الحسابات والغايات الضيقة، وبالرصيد الذي تملكه من المواقف التاريخية والمحطات الكبرى في خدمة القضية الفلسطينية ومنعطفاتها الحاسمة. ولعل أبرز هذه المحطات كان جمع المجلس الوطني الفلسطيني في نوفمبر/ تشرين الثاني 1988، (بعد شهر واحد من أحداث أكتوبر/ تشرين الأول في الجزائر)، حيث تم الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية. فالأمر يتعلق اليوم بمدى وجود الرغبة الحقيقية والجدية اللازمة لدى القوى والفصائل الفلسطينية لتقديم التنازلات الضرورية لتحقيق المصالحة وتوحيد الموقف.
في الواقع، المأزق الأكبر بالنسبة للحالة الفلسطينية بوضعها الراهن، يتعلق بمسألتين أساسيتين تعطلان مسارات المصالحة واستحقاقات الوحدة. المسألة الأولى تتعلق باستقلالية القرار الوطني، إذ تتدخل فيه أكثر من عاصمة ويؤثر فيه أكثر من فاعل، بما لا يخدم مصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته. والجزائر التي أطلقت مبادرة الحوار الفلسطيني، منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، على دراية تامة بهذه المعوّقات. ولذلك، أقر وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة بأن الجزائر عمدت إلى التنسيق خلال هذه المبادرة مع عدد من الدول العربية المتدخلة، ذلك أن الجزائر تدرك أن محاولة إنهاء الانقسام الفلسطيني وتحقيق مصالحة وطنية بين الفصائل مهمة بالغة التعقيد، تتجاوز الفلسطينيين والقرار الفلسطيني نفسه. ولذلك، فهي لا ترفع سقف توقعاتها، وتتبع نهجاً واقعياً وحذراً، من خلال إبعاد المبادرة عن لغط الإعلام وجدل المواقف.
المسألة الثانية، ليست أقل تعقيداً للوضع الفلسطيني من الصدام الحاصل بين مشروع أوسلو الذي توقّع الحكيم جورج حبش، منذ إطلاقه في منتصف التسعينيات وصوله إلى طريق مسدود، وبين مشروع المقاومة الذي يعتبر أن البندقية هي السبيل الوحيد لإزالة الاحتلال. وتتجسد هذه المسألة واقعاً على الأرض في الصراع بين السلطة الفلسطينية التي تحوّلت إلى دركي يحمي إسرائيل ويلاحق المقاومين، وحركات المقاومة التي تصرّ على ممارسة حقها المشروع في الدفاع عن الشعب الفلسطيني، وبين حكومة في رام الله تسيطر عليها حركة "فتح"، وحكومة في غزة تقودها حركة "حماس" منذ عام 2007. بينما تستفيد إسرائيل وحدها من هذا الانقسام؛ زماناً مكاناً، وتبتلع مزيداً من الأرض والحقوق، علماً أن التاريخ كان يُحسم دائماً لصالح المقاومة طال الزمن أو طال.