ويجرى الحراك تحت غطاء تصويت البرلمان في الخامس من يناير/ كانون الثاني الماضي على قرار يلزم الحكومة بإنهاء الوجود العسكري الأجنبي في البلاد، بعد يومين على اغتيال الولايات المتحدة قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، والقائد بمليشيات الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، كأول ردّ فعل عراقي سياسي ضدّ العملية التي اعتبرها العراق عدواناً من قبل أميركا.
وبحسب مصادر سياسية وحكومية عراقية، أحدها عضو في "مؤسسة الشهداء"، وهي الجهة المعنية بملف ضحايا الإرهاب وضحايا الأخطاء في العمليات العسكرية، فإنّ لجاناً من محامين وحقوقيين باشرت منذ أيام التحرّك، لرفع دعاوى قضائية ضدّ "التحالف الدولي" بشأن الضحايا المدنيين. ولفتت المصادر في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أنّ الحكومة العراقية أو أياً من مؤسساتها غير مشتركة في هذا الحراك، المتعلق بمقاضاة التحالف الدولي، لكن مكتب رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي لا يمانعه، وقدّم تسهيلات في هذا الصدد من ناحية المعلومات المتوفرة لديه.
وهذا الملف هو الأكثر إيلاماً لسكان مدن وبلدات عراقية ضمن محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين وكركوك وبغداد وديالى، شمال وغرب ووسط العراق، لا سيما أنّ الضحايا حتى الآن لم يتم إنصافهم من قبل الحكومة العراقية وتصنيفهم كـ"شهداء قضوا نتيجة أخطاء عسكرية" أو ضمن ضحايا جرائم الإرهاب. وبحسب التعريف الرسمي المعتمد، فإنّ "الشهيد هو كل مواطن عراقي أو أي شخص آخر مقيم في العراق ضحّى بحياته أو فقدها بشكل مباشر نتيجة جرائم حزب البعث أو ضحى بحياته جراء تلبية نداء الوطن أو خلال العمليات الإرهابية". كما أنّ ذوي الضحايا ما زالوا في انتظار تظلمات قدموها للقضاء بهذا الشأن، تندرج ضمن حراك القوى المرتبطة أو القريبة من إيران، ضدّ الوجود الأميركي في العراق.
ووفقاً لعضو في البرلمان العراقي عن محافظة نينوى، فإنّ الخطوة "تدعمها جهات سياسية معروفة التوجه"، معتبراً في حديث مع "العربي الجديد" أنه "كان على اللجان التي تجمع أسماء الضحايا وتواريخ وملابسات مقتلهم أن تطالب الحكومة بإنصاف ذويهم من الأذى الذي تعرضوا له، وصرف مرتبات أو تعويضات لهم"، مضيفاً "لكن الموضوع بمجمله يندرج ضمن وسائل ضغط، عبر استعراض أوراق المعارك التي جرت بين نهاية 2014 وحتى 2018، والتي شاركت فيها أسلحة جو عدة، أبرزها سلاح الجو الأميركي والبريطاني والفرنسي والكندي والأسترالي والهولندي، وكذلك العراقي. والأخير كان أكثر أسلحة الجو المشاركة في العمليات تسجيلاً للأخطاء وسقوط الضحايا بين المدنيين، لا سيما في الفلوجة التي استخدمت فيها البراميل المتفجرة أو ما عرف حينها باسم السقّاطات ذات التدمير الواسع".
ويجعل ذلك من إمكانية تحديد هوية المقاتلات المسؤولة عن هذه المجزرة أو تلك مسألة غير سهلة، وهو ما أشار إليه الخبير في الشأن العراقي أحمد الحمداني، الذي اعتبر في حديث مع "العربي الجديد" أنّ التحرك المستجدّ "سياسي".
وأضاف الحمداني أنّ "المعلومات المتحصلة حول الموضوع، تشير إلى أنّ فرقاً مدعومةً من مليشيات وجماعات مسلحة وقوى سياسية مرتبطة بإيران بدأت تحرك ملف ضحايا التحالف"، لافتاً إلى أنّ "الملف إنساني، والتحالف خلّف ضحايا بالآلاف، وأنكر قتل الكثير منهم، وحوّل الساحتين العراقية والسورية إلى حقلي تجارب بالقصف طوال السنوات الماضية. لذا يجب أخلاقياً عدم التحرك نحو الملف بدوافع سياسية أو إرضاءً لإيران وأجندتها، بقدر ما يجب أن يكون تحرّكاً لإنصاف الضحايا وكشف الجناة".
وفي يوليو/ تموز من العام الماضي، أعلنت قيادة "التحالف الدولي" عن أنّ أكثر من 1300 مدني قتلوا في العراق وسورية جراء قصف التحالف. وجاء في بيان للأخير حينها أنه "وجّه 34 ألفاً و514 ضربة جوية بين أغسطس/ آب عام 2014 ونهاية يونيو/ حزيران عام 2019. وخلال هذه الفترة، واستناداً إلى المعلومات المتاحة، وفقاً لتقديرات القيادة، قتل عن غير قصد ما لا يقل عن 1321 مدنياً، منذ بداية عملية العزم الصلب". لكن مسؤولين عراقيين وحقوقيين يؤكدون أنّ هذا الرقم أقلّ بكثير من الرقم الحقيقي، وأنّ عدد ضحايا التحالف في العراق لوحده هو أضعاف هذا العدد مرات عدة.
وفي السياق، قال علي البياتي، عضو المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق، وهي مؤسسة رسمية عراقية، لـ"العربي الجديد"، إنّ عدد الضحايا أكثر بكثير مما أعلنه "التحالف الدولي" أو اعترف به، موضحاً أنّ "الحكومة لم تكن لديها أي إجراءات بهذا الصدد، لكن قبل أيام تسلمنا كتاباً من رئاسة الوزراء، فيه شكاوى وبلاغات من قبل عدد من المواطنين الجرحى أو من ذوي قتلى غارات التحالف بالعراق". ولفت إلى أنّ عدد تلك الشكاوى والبلاغات بلغ 926 من الأنبار ونينوى وصلاح الدين وكركوك، مشيراً إلى أنّ نصفها تقدّم به جرحى والنصف الآخر تقدّم به ذوو ضحايا قتلوا بغارات التحالف. واعتبر البياتي أنّ "التحالف الدولي والدول المشاركة به، يمكن مقاضاتها، وبأقلّ التقديرات يمكن المطالبة بدفع تعويضات للضحايا".
وسبق لمفوضية حقوق الإنسان العراقية أن أعلنت العام الماضي أنّ عدد الضحايا الذين سقطوا جراء غارات "التحالف الدولي" يصل إلى 20 ألفاً في كل من العراق وسورية، وهي تقديرات مبنية على تقارير ومتابعات المفوضية.
من جانبه، أكّد رئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان العراقي، أرشد الصالحي، في حديث لـ"العربي الجديد"، وجود مئات الدعاوى المسجلة حالياً ضدّ التحالف الدولي لدى مكاتب الحكومة والجهات المعنية، مضيفاً أنّها كلها مقدّمة من سكان المدن التي كانت محتلة من قبل تنظيم "داعش". وعلى الرغم من وجود اعتراف أميركي ومن قبل "التحالف الدولي" بالقصف الخطأ الذي تسبب بقتل مدنيين، "لكن ما ذكروه من أعداد أقل بكثير من الواقع"، وفق الصالحي، الذي أكّد أنّ "الحكومة ملزمة بالقيام بواجبها في هذا الملف، ومن الضرورة رفع دعاوى قضائية، وأيضاً المطالبة بتعويض المتضررين".
لكنّ قانونيين عراقيين يؤكدون أنّ حكومة بلادهم تعتبر مشاركة بصفة متورّط في قضية سقوط ضحايا مدنيين بغارات "التحالف"، كونها منحت الترخيص لعمل التحالف في العراق، وأيضاً الطيران العراقي نفسه تورّط في جرائم مماثلة، خصوصاً في الموصل وبيجي والحويجة والفلوجة شمال وغرب البلاد.
ووفقاً للمحامي محمد العزاوي، فإنّ "الحكومة العراقية طرف متّهم أيضاً، والدعاوى يجب أن تكون من طرف آخر، فالسلطات العراقية ضمن دائرة الاتهام وليست خارجها". وأوضح العزاوي في حديث مع "العربي الجديد" أنّ "الطيران العراقي المروحي والحربي والوحدات البرية المدفعية متورطة في مجازر مروعة راح ضحيتها مئات الأبرياء في سنوات الحرب الأربع، وهذا يضعها في خانة الاتهام مع التحالف الدولي، ولا يمكن أن تأخذ الآن موقف الطرف الثالث في القضية، وعلى الفرق المعنية أن تتحرك على مستوى كل أطراف الحرب".
واعتبر العزاوي أنّ "تحريك قوى مقربة من إيران لهذا الملف، قد يدفع الجهة الأخرى لفتح ملف جرائم المليشيات العاملة ضمن الحشد الشعبي وانتهاكاتها، في تلك المدن نفسها، بدءاً من عمليات الإعدام الجماعية للمدنيين بدوافع طائفية، مروراً بالمقابر الجماعية وحرق المنازل بعد سرقة ما فيها، انتهاءً بعمليات التغييب الجماعي لعراقيين ما زال مصيرهم حتى الآن مجهولاً".