باتت تداعيات انقلاب كير ستارمر على قيادة جيريمي كوربن في زعامة حزب "العمّال" البريطاني، العام الماضي، تتضح أكثر فأكثر، لجهة الرغبة في إعادة الحزب نحو يمينية تسعينيات طوني بلير. وتتواصل ملاحقة أنصار كوربن، ومعظم رموز الجناح اليساري في الحزب، وهي حالة تتطور نحو أسوأ وضع يعيشه "العمّال" منذ شهر إبريل/نيسان 2020 (تاريخ انتخاب ستارمر لخلافة كوربن في زعامة الحزب).
آخر ضحايا إجراءات جرّ "العمّال" إلى اليمين، ومعه تأييد إسرائيل، هم المنتقدون داخل الحزب، لتل أبيب، مع محاولة معسكر ستارمر فرض عملية تكميم أفواه عليهم، من خلال تعيين رجل استخبارات إسرائيلي سابق، يدعى عسّاف كابلان، لتنظيف "العمّال" البريطاني من نشطاء معروفين داخله بانتقادهم لدولة الاحتلال. وكانت صحيفة "مورنينغ ستار" نشرت في يناير/كانون الثاني الماضي، في سياق الكشف عن حقيقة كابلان، أنه "خدم بين العامين 2009 و2013 في الوحدة السيبرانية سيئة السمعة التابعة لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي، والمسماة الوحدة 8200". وهذه الوحدة موكل إليها جزء هام من حرب تل أبيب على حركة المقاطعة الدولية "بي دي أس" (مقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض عقوبات على إسرائيل).
وما يثير الاهتمام، هو أن كابلان هذا، لا يزال على قوائم الخدمة في دولة الاحتلال، كضابط على قوائم "الاحتياط"، ويسافر سنوياً إلى الأراضي المحتلة للخدمة لمدة 30 يوماً هناك. وكابلان، بحسب رصد أعضاء في "العمّال"، بات يملك شبكة علاقات واسعة بالمؤسسات الصهيونية، وهو صديق مقرب من جماعات الضغط، ومن الجاسوس الإسرائيلي شاي ماسوت، الذي كان يعمل في السفارة الإسرائيلية في لندن، وتمّ ترحيله في العام 2017 من قبل الحكومة البريطانية بعد التجسس على الوزراء والسياسيين.
تهدف الحملة ضد أعضاء من "العمّال"، وخصوصاً مناهضي إسرائيل، إلى ترسيخ قيادة ستارمر
وعلى الرغم من أن موقع "الانتفاضة الإلكترونية" كشف في يناير/كانون الثاني الماضي عن دور عسّاف كابلان، فإن قيادة حزب "العمّال" مستمرة في مراقبة وملاحقة الناشطين. ويحصل هذا الأمر في سياق غربي محموم، يمتد من مواقف يمينية ينتهجها يسار الوسط الحاكم في الدنمارك، مروراً بما يحصل في دول أخرى مثل ألمانيا وفرنسا، لتجريم قانوني بحق منتقدي الاحتلال بذرائع كثيرة، وعلى رأسها تهمة "معاداة السامية". وتبدو تهمة "معاداة السامية" شعاراً براقاً وجذاباً لمجموعات اليمين الأوروبي، والبريطاني، لإسكات منتقدي الاحتلال، والسعي بكلّ قوة لمحاصرة عمل حركات التضامن والمقاطعة، التي تزداد شعبيتها، مع مزيد من انكشاف ممارسات تل أبيب المتطرفة مع الفلسطينيين، وخصوصاً في السنوات الأخيرة في ظلّ حكومة بنيامين نتنياهو.
وكانت صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، أفادت في تقرير لها نشر في ديسمبر/كانون الأول الماضي، حول تزعم ستارمر للحزب، بأن الأخير "سينتهج سياسة أكثر تصلباً تجاه المنتقدين لإسرائيل"، لافتة إلى أن عدداً من المؤسسات الداعمة لتل أبيب "أرسلت تبرعاتها إلى الحزب بعدما تزعمه ستارمر، ومن بين المتبرعين، مرّوج الإسلاموفوبيا (رهاب الإسلام)، دافيد أبراهامز، وتريفور تشين من المركز البريطاني - الإسرائيلي للعلاقات والأبحاث".
ويحظى ضابط الاستخبارات الإسرائيلي بتغطية قيادات حزبية لاستهداف الناشطين، من خلال عمليات اختراق وتجسّس على نقاشات هؤلاء على مواقع التواصل الاجتماعي ومنصّات الحوار الخاصة بالموقف من تصرفات الزعامة الجديدة في الحزب. ووفقاً لمصادر فلسطينية خاصة، تحدثت لـ"العربي الجديد"، فإن حلقة ضيّقة تحيط بستارمر، أوكلت لعسّاف كابلان مهمة "مراقبة وتحليل اللغة المستخدمة من قبل أعضاء الحزب"، و"منحه حقّ شطبهم وملاحقتهم على وسائل التواصل وكل منصّات الحوار، سواء التابعة للحزب أو تلك التي تناصره في مختلف المناطق البريطانية".
ويذكر نشطاء من أصول فلسطينية، أن "حالة غضب تتوسع بين البريطانيين الأعضاء، وخصوصاً ممن يصنفون على أنهم من يسار الحزب، ومن مؤيدي كوربن وحركة بي دي أس، بسبب انكشاف مهمة جاسوس إسرائيلي في حزب بريطاني". ووفقاً لمعلومات من نشطاء يسار "العمّال"، فإن قيادة الحزب ذات التوجه اليميني تحاول التضييق والتخلص من نحو ستة آلاف عضو لا يروقون لضابط الاستخبارات الإسرائيلي ولقيادة الحزب.
وعانى أولئك داخل الحزب الذين عرفت مواقفهم الصريحة بتأييد نهج كوربن، مما يشبه "عملية تطهير بدأت فور الانقلاب الذي قاده ستارمر، إذ جرى عملياً تعليق عضويتهم، بسبب مواقف تنتقد الاحتلال وتعامله مع الشعب الفلسطيني"، بحسب المصادر. وممن تعرضوا للملاحقة على خلفية المواقف السياسية، تبرز رئيسة فرع "العمّال" في دائرة بريستول الشمالية الغربية، إستر غايلز، التي تمّ تعليق شغلها لهذا المنصب، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي (خصوصاً على خلفية تحركات دعماً لكوربن)، إلى جانب نحو 70 من رؤساء أقسام أخرى للحزب. وتعقيباً على ما يجري داخل الحزب من مطاردة للأعضاء، أعربت غايلز في تصريحات لها عن شعورها بـ"القرف من تصرفات القيادة الحالية للحزب، وخصوصاً توظيفها جاسوساً إسرائيلياً محترفاً في مجال القرصنة وعالم الإنترنت، لمراقبة مواطنين بريطانيين بسبب مواقفهم السياسية".
ونشطت غايلز إلى جانب 62 عضواً من رؤساء فروع الحزب الموقوفين، في شبكة خاصة بهم، خارج أطر الحزب، وفوجئ هؤلاء بملاحقة الضابط الإسرائيلي من الوحدة 8200، كابلان، داخل شبكتهم الجديدة "عمّال في المنفى"، التي أطلقت رسمياً في 27 فبراير/شباط الماضي، متتبعاً نقاشاتهم ومطالباً بالانضمام إلى الشبكة الجديدة التي كشفت الشهر الماضي عن مزيد من الملاحقة والإقالات في صفوف يسار الحزب، وسط اشتداد الصراع على قيادته وتهديد المئات بالانسحاب وتشكيل حزب بديل.
عيّن ستارمر رجل استخبارات إسرائيليا سابقا، لتنظيف الحزب من النشطاء اليساريين
ويتناول الناشطون اليساريون، وأعضاء في "حملة فلسطين"، وحملة التضامن مع فلسطين (بالستاين سوليداريتي كامبين)، كيف تمكّن جاسوس الوحدة 8200 الاستخبارية الإسرائيلية، من الوصول إلى هذه المكانة الحسّاسة التي تمنحه أن يقرر بناء على موقفه، عضوية مواطنين بريطانيين في حزبهم التاريخي. وعلى الرغم من الخشية على أوضاعهم، بات الهمس المستمر منذ العام الماضي، يتحول إلى صوت مسموع، ويتهم بعض هؤلاء القيادي المعروف في الحزب، مايكل روبين، مسؤول "أصدقاء إسرائيل" في الحزب، بهندسة "مطاردة مؤيدي القضية الفلسطينية بحجة مزاعم عن معاداة السامية"، وأن روبين استطاع من خلال نفوذ الحركات الصهيونية البريطانية، نسج علاقة أوصلت عسّاف كابلان إلى موقعه. ويشير أعضاء الحزب إلى أن روبين قاد حملة ممنهجة ضد جيريمي كوربن منذ العام 2016.
حالات الطرد والتجميد التي تأتي على خلفية "الرقابة" التي يفرضها كابلان، لم تستثن مؤيدي منظمة غير حكومية تدعم الفلسطينيين، هي منظمة "حملة فلسطين"، التي كان كوربن يترأسها شرفياً. وطاولت إجراءات التجميد، رغم الشكوى إلى "لجنة الشكاوى المركزية" في "العمّال"، الناشط من أصل يهودي والمعادي للصهيونية، موشيه ماشوفر (85 عاماً)، بسبب اتهامات يراها هو وغيره "مثيرة للسخرية" تتعلق بـ"معاداة السامية". وبدأت ملاحقة ماشوفر، بعدما اتهمته قيادة الحزب الحالية بتنظيم تظاهرة العام الماضي ضد "مهرجان السينما الإسرائيلي في لندن"، المدعوم من حكومة الاحتلال. والتظاهرة نُظّمت من قبل "الشبكة اليهودية العالمية المعادية للصهيونية". ويرى أعضاء ونشطاء في "العمّال" البريطاني، أن ملاحقة ماشوفر "دليل على محاولة تكميم الأفواه وأخذ الحزب بالترهيب نحو مواقف أكثر قرباً ولطفاً من الحركة الصهيونية ومؤيديها في بريطانيا".
لا شك عند إستر غايلز، أن الحملة التي تطاول مئات وآلاف الأعضاء من حزب "العمّال"، وخصوصاً النقابيين ومناهضي الاحتلال الإسرائيلي، تهدف إلى ترسيخ قيادة ستارمر، ولأنه "صهيوني مائة في المائة، وهو يود أن يعيد الحزب إلى منحى طوني بلير الذي ضرب نهج الحزب". والشهر الماضي، توعدت نائبة رئيس الحزب، والتي تعد الساعد الأيمن لستارمر، أنجيلا راينر، بمزيد من "التطهير من المعادين للسامية". وكانت راينر أعلنت خلال مؤتمر "أصدقاء إسرائيل في حزب العمّال"، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أنه سيكون هناك المزيد من الإيقاف، وأن "الحزب بدأ التعامل مع انتشار معاداة السامية في داخله". ونقلت صحيفة "ذا إندبندنت" البريطانية عن راينر قولها إن "الحزب ماضٍ في هذا المشروع، ولو كلّف تعليق عضوية الآلاف". وكانت فترة تزعم كوربن لـ"العمّال"، رفعت عدد أعضاء الحزب إلى نحو 600 ألف عضو، يقدر أن نصفهم ما زالوا يؤيدونه.