في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، استولت جماعة الحوثيين على سفينة الشحن "غلاكسي ليدر" المملوكة لرجل أعمال إسرائيلي، واقتادتها مع طاقمها إلى ميناء الصليف في الحديدة.
وبررت الجماعة، وقتها، هذه العملية بأنها تأتي رداً على استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وفقاً لبيان المتحدث العسكري باسمها يحيى سريع، مشيرة إلى أنها مستمرة في مهاجمة كل السفن المرتبطة بإسرائيل أو تلك المتوجهة إلى موانئ الاحتلال. وإثر تكرر العمليات ضد السفن تزايدت مخاوف العالم مما سمّي بتهديد الحوثيين لحركة الملاحة النشطة قرب مضيق باب المندب، المنفذ الحيوي لخطوط الملاحة الدولية.
أصبح الأهالي قرب مطار الحديدة عرضة لنزوح جديد جراء الغارات
وفي 12 يناير/ كانون الثاني الماضي شنت مقاتلات التحالف الأميركي البريطاني سلسلة غارات على مواقع مختلفة للجماعة، وذلك بعد نحو شهر من إطلاق الولايات المتحدة تحالف "حارس الازدهار" البحري، بمشاركة دول عدة، للتصدي لهجمات الحوثيين. وتركزت عمليات القصف على امتداد الشريط الساحلي في عبس، وميدي، والحديدة ومناطق مختلفة من العاصمة صنعاء.
تكرر الغارات على الحديدة يعيد للأذهان تداعيات حرب اليمن
وأعلن مصدر أمني لوكالة "سبأ"، بنسختها التابعة للحوثيين، أمس الثلاثاء، تعرض مديرية الضحي بمحافظة الحديدة لغارة. وقال إن "العدوان الأميركي البريطاني استهدف بغارة مزرعة سردود في منطقة الكدن بمديرية الضحي".
وأعاد تكرر الغارات على الحديدة إلى أذهان الأهالي تداعيات الحرب على المحافظة، الممتدة منذ عام 2018، بين الحوثيين والتحالف السعودي – الإماراتي، والتي تسببت بموجات نزوح كبيرة وأثرت بشكل واسع على مناحي حياتهم المختلفة. وشملت الغارات على الحديدة حتى الآن مواقع في الجبانة غربي المدينة، ومعسكرات ومواقع الشرطة والكلية البحرية في منطقة راس كثيب وراس عيسى ومطار الحديدة وأجزاء متفرقة من مديريتي الدريهمي والتحيتا جنوب الحديدة.
وبالقرب من مطار المدينة، الذي تعرض للقصف، أحياء شعبية مكتظّة بالسكان، ومساكن ملاصقة بشكل أو بآخر للسور المحيط بالمطار، وهي الأحياء التي شهدت نزوحاً كاملاً للمواطنين خلال المواجهات التي دارت في عام 2018. وقبل عامين عادت الأسر النازحة إلى تلك المساكن، أملاً في بدء حياة جديدة، بعد أن دفعت كلفة باهظة في الأرواح والممتلكات بسبب الحرب في المدينة.
غير أن أفرادها الآن، ومع استمرار الغارات على الحديدة، أصبحوا عرضة لنزوح جديد. طه محسن زيلعي، وهو رجل ستيني، يقول، لـ"العربي الجديد"، إنه "قبل أسابيع، ومع الفجر تحديداً، وأثناء نومنا، دوّت أصوات الانفجارات الناجمة عن قصف المطار. كان الأمر يشبه القيامة، وبلا وعي كان كل منا يركض طلباً للنجاة خوفاً من قذائف أو شظايا قد تصيبه". ويتحدث زيلعي عن حالة الطوارئ المنزلية التي يعيشون فيها، وهم متأهبون لرحيل إجباري قد تفرضه عليهم وقائع الأيام المقبلة.
وبالقرب من منطقة الجبانة التي تعرّضت للقصف أكثر من مرة توجد المنطقة الصناعية، وهي المكان الذي يحوي عدداً كبيراً من المصانع والمشاريع الإنتاجية التي يعمل فيها الآلاف من أبناء المدينة. ومع تعرضها للقصف فإن هناك مخاوف كبيرة من أن يتعرض العاملون فيها لأي إصابات، خاصة بعد وصول الشظايا إلى عدد من المنشآت الصناعية، من دون تسجيل أي إصابات.
مخاوف من اتساع نطاق القصف
يقول نادر الشميري، وهو موظف في أحد المصانع العاملة في المنطقة، لـ"العربي الجديد"، إنه يخشى من اتساع نطاق العمليات واستمرار القصف في محيط الجبانة، كي لا يتعرض العاملون والموظفون للموت أو التسريح من أعمالهم.
ويؤكد أن حركة الإنتاج توقفت أكثر من مرة عقب الغارات، مشيراً إلى أن فُرص الحصول على عمل أصبحت أمراً شديد الصعوبة في الظروف الحالية التي تمرّ بها البلاد. وعصر الخامس من فبراير الحالي شنّت مقاتلات أميركية عدداً من الغارات على الحديدة واستهدفت باثنتين منها منطقة الكثيب، وهي أحد المتنفّسات الساحلية التي يرتادها السكان بغرض الاستجمام والنزهة، وعادة ما تكون مكتظة بالنساء والأطفال.
يقول شادي ناصر السلمي، لـ"العربي الجديد": "فوجئنا بالانفجار الأول الناجم عن قصف الطيران لمبنى يقع بالقرب من الكلية البحرية، ما تسبب بارتفاع ألسنة اللهب، ما جعلني أفرّ بسرعة برفقة زوجتي وأولادي، ومثلي فعل الكثيرون".
ويضيف أنه "أثناء المغادرة وقع الانفجار الآخر الذي كان أشد قوة، وعلت فوقنا سحب الدخان، وبقيت النيران مشتعلة حتى مغادرتنا المكان. لقد كان أمراً صعباً للغاية، خاصة على الأطفال الذين كانوا يلهون وسط الماء ولعائلاتهم التي أربكتها تلك اللحظة المخيفة. لقد شاهدت لاحقاً عبر الشاشة ذلك المشهد الذي التقطه مراسل إحدى القنوات أثناء البث المباشر من المنطقة".
الحديدة الأكثر فقراً
تصنّف الحديدة بأنها أكثر مناطق البلاد فقراً وحاجة. ويبلغ عدد سكانها أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، تضاعفت مخاوفهم مع بدء عمليات القصف والاستهداف للسواحل والمقار الحكومية والعسكرية التي يسيطر عليها الحوثيون.
عبد الله أحمد سرمد (52 عاماً)، يعمل منذ أكثر من 30 سنة في مجال الصيد، غير أنه الآن تحديداً أكثر قلقاً من الإبحار، خوفاً من استهداف قاربه في عرض البحر كما حصل لرفاقه منذ أسابيع. ويقول سرمد، لـ"العربي الجديد": "لم أعد قادراً على تلبية احتياجات أسرتي وأولادي، واستمرار العمليات يعني أنني بين خيارين، إما الموت جوعاً في البر أو قصفاً في البحر". ويضيف بحسرة "إيش نسوي" (ماذا نفعل؟).
يشار إلى أنه في 25 يناير الماضي، عثر، بالقرب من جزر ذو حراب في البحر الأحمر، على جثث ثمانية صيادين، كانوا في رحلة صيد، وعليها آثار طلقات نارية. وتم التعرف عليهم من وثائقهم ومقتنياتهم الشخصية، فيما لم يتم بعد التعرف إلى الجهة التي أقدمت على قتلهم، كما لم يصدر أي توضيح حول الحادثة من أي طرف.
ويقول أحمد هبة الله مثنى، المدير العام للمصائد السمكية في البحر الأحمر التابع للشرعية اليمنية، والذي يعمل من مديرية الخوخة، لـ"العربي الجديد"، إن الحكومة "تخاطبت عبر الخارجية مع قيادة التحالف (الأميركي البريطاني) والسلطات الإريترية حول حادثة مقتل الصيادين". ويشدد على ضرورة عدم تكرارها وضمان سلامة الصيادين اليمنيين.
ويقول، حول صعوبة ما يمر به الصيادون، إنه "مع بدء العمليات العسكرية لم يعد باستطاعة الصيادين العمل في عمق البحر، واكتفى البعض بالصيد في المياه القريبة، ما يعني عدم حصولهم على كمية كافية من الأسماك، الأمر الذي يؤثر على عملهم بشكل كبير".
عبد الله أحمد سرمد: استمرار العمليات يعني أنني بين خيارين: إما الموت جوعاً في البر أو قصفاً في البحر
وتمتلك مدينة الحديدة ثاني أهم موانئ البلاد، إلا أن تناقضات الحالة المعيشية باتت واضحة، من خلال ارتفاع معدلات الفقر، فنصف السكان يعيشون على المعونات، سواء النقدية أو العينية، المقدمة من منظمات وهيئات المساعدات، وهو أمر يشكل مصدر قلق لآلاف الأسر التي لا تتوفر لديها أبسط سبل الحياة الكريمة إذا توقفت هذه الجهات عن منحهم المعونات.
خشية من تأثير العمليات على الأسعار
ويخشى السكان أيضاً من تأثيرات العمليات الجارية في البحر الأحمر على أسعار المواد الغذائية الأساسية، والمشتقات النفطية، وسلاسة تدفقها إلى الأسواق، وهو أمر يصعُب تجاوزه مع التوقف المستمر للرواتب وتدني القدرة الشرائية عموماً. ويرى الباحث الاقتصادي حسام السعيدي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن عمليات القصف يمكن أن تشكل خطراً على الحركة التجارية في البحر الأحمر، وأيضاً على العاملين في القطاع السمكي من صيادين وغيرهم.
ويضيف: "تدّعِي الولايات المتحدة أن عملياتها تستهدف فقط التصدي لهجمات الحوثيين، وعليه في حال صح الادعاء، فإن الآثار المترتبة على حركة الملاحة والتجارة الدولية في البحر ترتبط أساساً بالهجمات الحوثية. ووفقاً لبيانات نشرت أخيراً فإن حجم الحركة التجارية عبر البحر الأحمر انخفضت بنسبة 80 في المائة، وهو ما يهدد بانقطاع سلاسل التوريد إلى اليمن وزيادة تكاليف الشحن والتأمين على السفن".
ويضيف: "كما أن هناك إشكالات أخرى تتعلق بتضرر الصيادين المحليين، وخاصة أبناء محافظة الحديدة، من توتر الأوضاع الأمنية في البحر الأحمر، حيث يمكن أن يتعرضوا لضربات عن طريق الخطأ، بالإضافة إلى تراجع الحركة التجارية في الميناء وتضرر العاملين ومتعهدي الخدمات المحليين فيه".
ويلفت السعيدي إلى أن اليمن بلد يعتمد على الواردات لتلبية حاجات السكان من الغذاء وغيرها من المنتجات بشكل كبير للغاية، وبالتالي فإن تأمين هذه الواردات في ظل هذه الأوضاع يتطلب سلاسل توريد آمنة وبأثمان معقولة، وهو الأمر الذي تزيده هذه الهجمات والغارات على الحديدة صعوبة.
وبرأيه فإنه يفترض ألا تهدد العمليات العسكرية تدفق المساعدات كما هو معلن، مشيراً إلى أن وزارة الخزانة الأميركية أصدرت، أخيراً، بياناً، نفت فيه إمكانية أن تؤثر العقوبات أو تصنيف الحوثيين "حركة إرهابية" على تدفق البضائع والمساعدات إلى اليمن.
لكن السعيدي يوضح أن الإشكالات قد تتمثل في صعوبة إيجاد سلاسل توريد لنقل المساعدات الدولية إلى اليمن، وكذلك انخفاض حجم المساعدات بسبب ارتفاع تكاليف النقل والتأمين، بالإضافة إلى إمكانية وجود مشاكل لوجستية أخرى، تتضمن زيادة حدة المواجهات التي تقود إلى خفض مستويات السلامة وتهدد بالتالي سلاسل التوريد المحلية.