تصريح تلو الآخر، يكشف حقيقة الفكر الفاشي والعنصري لحزب "الفنلنديون الحقيقيون" القومي المتطرف، المشارك في الائتلاف الحاكم برئاسة المحافظ بيتيري أوربو. فمنذ أن تشكلت الحكومة قبل نحو شهرين، ابتليت بأزمات ضبط وزراء وسياسيين من اليمين القومي المتطرف بتصريحات نازية وعنصرية.
بدأت تلك الفضائح مع وزير التجار فيلهلم جونيلا، القيادي في الحزب، والذي أظهر ميله إلى الفكر النازي، والحماس لزعيم النازية أدولف هتلر في أحد خطاباته عام 2019، ما اضطره إلى الاستقالة بعد أيام قليلة من تعيينه.
بعد رحيل الوزير جونيلا، ظهر أن وزيرة الداخلية الجديدة ماري رانتانين، المسؤولة عن تطبيق سياسات الهجرة والأمن الداخلي في البلد، تؤمن بنظرية المؤامرة، مدعية على وسائل التواصل الاجتماعي أن "المسلمين سيطروا على أوروبا". بالكاد جرت "لفلفة" الفضيحة حتى انفجرت فضيحة أخرى أشد وقعاً، تطاول هذه المرة رئيسة حزب "الفنلنديون الحقيقيون" ريكا بورا، التي تشغل أيضاً منصب نائبة رئيس الحكومة ووزيرة المالية.
بورا وقعت أيضاً في فخ عنصريتها وفكرها الفاشي، بعد كشف الباحثين عن ماضيها، كيف كانت تصف المهاجرين في بلدها بأنهم "قرود أتراك"، واصفة نساء المسلمين بـ"أكياس سوداء، لا يمكنك معرفة أنهم أشخاص إلا لأنهنّ يجررنّ وراءهنّ أطفالاً".
وأحرج الكشف عن تلك التصريحات موقف هلسنكي مع العالم الخارجي، وخصوصاً مع تركيا، إذ اضطرت وزيرة الخارجية إلينا فالتونين إلى تهدئة الجانب التركي، بالتشديد على أن تصريحات بورا ليست في الوقت الذي كانت فيه في منصبها، وبأنه "لا مجال للعنصرية في الحكومة الفنلندية".
وبعد أن عجز حزب يسار الوسط (الاجتماعي الديمقراطي) برئاسة رئيسة الحكومة السابقة سانا مارين، عن تحقيق الأغلبية لاستمراره في الحكم بعد انتخابات مارس/ آذار الماضي، ذهب أوربو بحزبه المحافظ (التجمع الوطني) إلى تحالف مع الحزب المتطرف "الحقيقيون"، وحزبي "المسيحي الديمقراطي"، و"الشعب السويدي" (عن الأقلية السويدية في البلد)، لتشكيل حكومة "وسط" في يونيو/ حزيران الماضي.
المعضلة التي يواجهها أوربو أن "الشعب السويدي" (المحسوب أكثر على يسار الوسط)، لم يعد يستطيع احتمال بقائه في حكومة يشارك فيها "العنصريون والفاشيون"، هذا رغم معرفة الحزب من البداية أنه يشارك في ائتلاف يسعى إلى توفير كبير في الميزانيات العامة لمكافحة العجز الحكومي الكبير، وتشديد سياسات الهجرة في البلد الذي اعتُبر متسامحاً في مجموعة "دول الشمال" (إسكندنافيا وفنلندا وأيسلندا). ويجد "الشعب السويدي" نفسه شبه مضطر إلى ترك الحكومة، وبالتالي سقوط هذا الائتلاف مع دورة البرلمان الجديدة في سبتمبر/ أيلول المقبل.
الحرج الكبير الذي تعيشه سلطات هلسنكي زاده في الأيام الأخيرة الكشف عن أن وزير التجارة الجديد، ويلي ريدمان، ليس أقل عنصرية وفاشية من الآخرين في "الفنلنديون الحقيقيون" (الذي يُتهم أصلاً بأنه يضم مجموعات منتمية إلى التيار الفاشي الشمالي). فعند ريدمان يدعى ناس الشرق الأوسط بـ"جرذان الصحراء". وحين رغبت شريكته سابقاً بمنح طفلهما اسماً عبرياً (توراتياً) عارض ذلك على أساس "أننا كنازيين لا نهتم حقاً بمثل هذه الأشياء اليهودية".
وحاولت زعيمة الحزب المتطرف ووزيرة المالية، ريكا بورا، مواجهة هذه العاصفة بالقول، إنها كوزيرة لا تستخدم تلك العبارات، لكنها لم تنتقد الفضائح التي كشفت، بل شددت على أنها ماضية في استخدام خطاب متشدد حيال الهجرة، تحت مسمى "خطاب نقدي للهجرة".
ما تقدّم، وغيره مما يشعل الجدل، يسرّع في تفكك الحكومة. فقد أعلنت وزيرة التعليم عن "الشعب السويدي" آنا ماجا هنريكسون، عن أن عدم استجابة "الفنلنديون الحقيقيون" للمطالب بإدانة تلك التصريحات، لا يبشر باستمرار حزبها في الائتلاف. وتعي زعيمة حزب الأقلية السويدية أن قواعدها الحزبية باتت في حالة غليان وتصاعد في الدعوات لمغادرة الحكومة فوراً.
فعلى الرغم من وعود حكومة هلسنكي بالعمل ضد العنصرية، فإن الأمور يبدو أنها تنفلت شيئاً فشيئاً، مع اختيار يمين الوسط ضم اليمين المتطرف إلى صفوفه، وتبرير ذلك بأن 20 في المائة من الناخبين صوتوا لهم. حتى إن السجال في الأيام الأخيرة، يدفع بقياديين وبرلمانيين في الحزب المتطرف إلى ادعاء أن "لا عنصرية في تلك التصريحات"، كما نقلت صحيفة "هيلسنغين سانومات" عن رئيس مجموعته البرلمانية جاني ماكيلا قوله إنه لا يمكن استخدام مصطلح العنصرية إلا عندما يجري التمييز ضد الأفراد، وليس ضد مجموعات بأكملها، معتبراً أنه "لذلك، على سبيل المثال، ليس من العنصرية انتقاد الثقافات الأخرى".
لكن السجال وصل إلى حدّ تدخل مكتب "أمين المظالم" المعني بالتمييز في فنلندا، الذي أكد لصحيفة "هوفستادبلادسيت" (ناطقة بالسويدية) أن "العنصرية تُعرف على نطاق أوسع، وتتضمن من بين أمور أخرى، التمييز الهيكلي الذي يمكن أن يؤثر في كل من الأفراد والجماعات".
ومع مواصلة حزب "الفنلنديون الحقيقيون" تمسّكه بالتعريف الضعيف للعنصرية، وتخفيف الميول النازية والفاشية لأعضاء فيه، فإن الأسابيع المقبلة تنذر بأزمة أكبر. ويأتي ذلك على خلفية تزايد الأصوات المنادية بضرورة تأييد "الشعب السويدي" لحجب الثقة عن الحكومة في أول جلسة الشهر المقبل. وذلك يعني ببساطة، إما عودة التكليف إلى يسار الوسط، بافتراض انضمام "السويدي" إليهم، أو الذهاب إلى انتخابات مبكرة.
لا شيء في فنلندا يشير إلى قدرة رئيس الحكومة بيتيري أوربو على عزل القوميين المتشددين (الفنلنديون الحقيقيون) عن حكومته، بعد أن اختار معسكره خياراً مخالفاً للنموذج السويدي، الذي رفض منح حزب شبيه هو "ديمقراطيو السويد" نفوذاً سياسياً حكومياً، وإن كان قد بدأ يستغل قاعدته البرلمانية للتأثير في حكومة يمين الوسط، برئاسة أولف كريسترسون.