الجميع ينتظر النائب العام في ليبيا الصديق الصور ليعلن عن نتائج التحقيقات في أسباب انهيار سدي وادي مدينة درنة، واللذين تسببا في موت الآلاف وفقدان وتشريد مثلهم، خصوصاً أنه أعلن، الاثنين الماضي، عن إجراءات وقرارات جديدة تُظهر جدية السلطات القضائية في التعامل مع هذا الملف، كالأمر بحبس عميد بلدية درنة أحمد امدورد، أقرب المتهمين الضالعين في الكارثة، وسبعة مسؤولين آخرين. كما حرّك قضايا جنائية ضد غيرهم، ليرتفع عدد المتهمين في القضية إلى 16 مسؤولاً.
مكتب النائب العام صرح بأن التحقيق سيسير بالتوازي في جانبي الفساد والإهمال، الفساد المالي والإداري، سواء لدى بلدية درنة أو لدى هيئة المياه وقبلهما إدارة السدود، وأين ذهبت المخصصات المالية وكيف عقّدت الإجراءات الإدارية الاستفادة منها في صيانة المنشآت المرافق الخدمية، أو كيف فتحت هذه الإجراءات طريقاً لنهب تلك المخصصات.
أما الإهمال، فهو تغاضي السلطات المتصلة صلاحياتها ومسؤولياتها بالمرافق والمنشآت الخدمية، ومنها السدود، عن الاهتمام بها ومراقبتها، وعلى الأقل عدم وجود نظام إنذار مبكر في السدود لتلافي تداعيات كارثة انهيار السدين في درنة.
صحيح أن المسار القانوني للتحقيق، كما يبدو حتى للمراقب غير المتخصص، يسير في الاتجاه المطلوب، لكن يبقى السؤال: هل الفساد والإهمال وليد اللحظة، أما أنهما ثقافة وأسلوب عمل لدى المسؤولين والقادة تجذرت منذ سنوات؟ الجواب يقع ضمن بيان مكتب النائب العام الذي أشار إلى أن التحقيقات ستطاول مسؤولين من النظام السابق، ما يعني أن السلطات القضائية نفسها متهمة بالإهمال والتقصير، وإلا أين كانت عندما كان الفساد يدب في كل شيء، وهل دورها في التحقيق والمتابعة يبدأ منذ تلقيها للبلاغات فقط؟
المؤسسة القضائية سلطة منفصلة، كما توصف في كل أدبيات أزمة الحكم والسياسة في العالم، ودورها رقابي أيضاً، ولا يقتصر على العمل بعد وقوع الكوارث والأزمات، فهي ليست مؤسسة عقابية، وعند تقصيرها هناك من يحاسبها. لماذا لم تتحرك السلطة القضائية للتحقق من صحة المئات من الوثائق التي كشف عنها نشطاء وتنتشر عبر وسائل الإعلام تؤكد استشراء الفساد في المؤسسات الحالية؟ وإن كان جواب القضاة والنيابة العامة أنها وثائق لا يعتد بها، فماذا عن تقارير ديوان المحاسبة، أعلى جهة رقابية في الدولة، التي بدأت في الكشف جهاراً نهاراً منذ العام 2014 ضمن تقاريرها السنوية عن وثائق وأرقام رسمية عن حجم الفساد والنهب الواسع للمال العام والتجاوزات الإدارية الفاضحة. بل وأكثر من ذلك فقد نشرت ضمن تقريرها للعام 2021 وثائق وأرقاماً رسمية تخص سدي وادي درنة تظهر فساداً واضحاً في أموال ومخصصات صيانة السدين ظلت مفتوحة أمام الناهبين منذ العام 2010 وحتى العام 2020.
الآمال على التحقيقات الجارية في انهيار سدي درنة قد تتبخر قريباً، ولن تتمكن النيابة العامة من ملاحقة الجناة الذين يعرف كل ليبي هوياتهم. مثلاً هل ستنظر النيابة العامة في قانونية تولي عميد بلدية درنة منصبه بعدما تم تكليفه من قبل خاله رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، على الرغم من أن الأخير لا يملك سلطة تعيين العمداء، وطالما كان منصبه محل جدل واعتراض من قبل العديد من أهالي سكان درنة؟
سؤال عابر على سبيل المثال لا الحصر، ومن أبسطها كيف يمكن أن يكون القضاء مستقلاً ومنصب النائب العام من بين المناصب السيادية السبع التي أوكل لمجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة سلطة تعيين شاغليها وإقالتهم؟ انهيار سدي درنة كشف عن أكذوبة استقلال السلطات في البلاد، وأن الجميع واقع في قبضة قلة من أصحاب المصالح الخاصة.