قبيل وبعد إقرار الكنيست، نهاية شهر يوليو/تموز الماضي، قانون تقليص "حجة المعقولة"، وإعلان بعض رؤساء التحالف الائتلافي بأن الحكومة ستستمر في سن قوانين خطة وزير القضاء ياريف ليفين لتقييد القضاء، حتى بثمن استمرار الاحتجاج وباقي الأثمان المنوطة بذلك، بات واضحاً لرؤساء حركات الاحتجاج والمعارضة، وفقاً لتصريحاتهم، أن أهداف التحالف الحقيقية هي السعي لحسم طابع وهوية إسرائيل وفقاً لرؤية اليمين المتطرف المتدين، وليس فقط تقييد القضاء.
ويعني ذلك أن تكون إسرائيل أكثر يهودية، أقل ديمقراطية (حتى بمعايير الإجماع الصهيوني ذاته)، ومحاولة حسم ملف الاحتلال عن طريق ضم أكبر نسبة من الأراضي الفلسطينية، وإبقاء سلطة فلسطينية هشة لإدارة الحياة اليومية.
وهذا يعني بالنسبة للمعارضة وحركات الاحتجاج أن تكون إسرائيل دولة مختلفة بالنسبة لهم، وغريبة عن قناعاتهم وثقافتهم السياسية، وتضر بمصالحهم الهوياتية والقومية والاقتصادية.
سن القانون لا يعني إغلاق ملف خطة تقييد القضاء، وهيمنة اليمين على كافة سلطات اتخاذ القرار في إسرائيل، بل يعني أنه يمنح التحالف أدوات إضافية للسعي إلى ذلك، من دون أن يشير ذلك إلى أن استمرار سن قوانين الخطة سيمر بسهولة.
حذرت "أمان" من أن إيران و"حزب الله" يرصدان فرصة تاريخية لتغيير الوضع الاستراتيجي في المنطقة
بعد سن القانون نجد أن هناك قوى إضافية دخلت مباشرة على خط محاولة منع استمرار تنفيذ الخطة، أو ترويضها على الأقل، بغية منع توسع الشرخ في المجتمع الإسرائيلي، الذي بات ينعكس في قوات جيش الاحتياط، بل وربما في قوات الجيش النظامي، ولدى أفراد الشرطة، وينعكس على الحالة الأمنية الاستراتيجية، والاقتصاد والديمغرافية، بعد أن ازداد أعداد الإسرائيليين الراغبين في الانتقال إلى دول أخرى في الأسابيع الأخيرة.
محاولات المؤسسة الأمنية ردع استمرار تنفيذ الخطة
التحول الأبرز في الأسابيع الأخيرة، وبعد سن قانون "حجة المعقولية"، كان في دخول المؤسسة الأمنية والعسكرية الرسمية بشكل علني وواضح على خط محاولات ردع استمرار تنفيذ الخطة، وطرح باقي اقتراحات القانون، بحيث بدأت المؤسسة الأمنية والعسكرية الاسرائيلية، ببعث رسالة واضحة، إلى عدة عناوين، مفادها واحد، وهو أن استمرار عدم الاستقرار السياسي والتصدع في المجتمع الإسرائيلي بات يشكل خطراً على الأمن القومي الإسرائيلي.
فقد نشرت وسائل إعلام إسرائيلية، نهاية يوليو الماضي، أن شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان" حذرت رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، عدة مرات خلال الأشهر الأخيرة، من أن إيران و"حزب الله" بشكل خاص "يرصدان فرصة تاريخية من أجل تغيير الوضع الاستراتيجي في المنطقة، في أعقاب الأزمة الهائلة في إسرائيل والتي لم يشهدوا مثلها من قبل".
وأرسلت "أمان" أربع رسائل إلى نتنياهو على خلفية خطة "الإصلاح القضائي" لتقييد جهاز القضاء. كان آخرها قبيل المصادقة على قانون إلغاء "حجة المعقولية"، وجاء فيها أن الضرر الأمني ليس فورياً وحسب وإنما سيكون له عواقب بعيدة المدى، وفق ما ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" وقتها.
ارتفاع احتمالات التصعيد مع "حزب الله"
وحسب تقديرات "أمان"، فإن إيران و"حزب الله" سيفضلان عدم التدخل "وجعل إسرائيل تنزف من الداخل"، لكن احتمالات التصعيد ارتفعت وباتت الأعلى منذ حرب لبنان الثانية، صيف عام 2006.
وسيبحث الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله "عن احتكاك (مع إسرائيل) مثلما فعل في الأشهر الأخيرة – من خلال التفجير في مجيدو ونصب الخيام في مزارع شبعا، واستهداف بنية تحتية عند الحدود – حتى بثمن عدة أيام قتالية مقابل إسرائيل".
وكانت شعبة الاستخبارات نشرت، في إبريل/نيسان الماضي، التقييم السنوي، وفيه تحدثت عن ارتفاع فرص اندلاع حرب شاملة في المنطقة خلال العام المقبل بنسبة كبيرة.
ولفت التقرير إلى أن إيران و"حزب الله" وحركة حماس باتوا مستعدين بشكل واضح للمخاطرة والمغامرة بشن "عمليات هجومية أكثر جرأة، لأنهم يفترضون أن إسرائيل ضعفت، في أعقاب الأزمة الداخلية المتعاظمة وتقلص هامش المناورة الاستراتيجية أمامها". وقد أطلقت الاستخبارات الإسرائيلية على هذا السيناريو صفة "العاصفة الكاملة".
تعاظم خطر اندلاع حرب
وأبرز التقرير أن خطر فرص اندلاع الحرب يتعاظم في ظل تراجع الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط، وزيادة مستوى الثقة بالنفس لدى الإيرانيين، لدرجة إقدامهم على تحدي إسرائيل مباشرةً، وبفعل انعدام الاستقرار في الساحة الفلسطينية.
مضمون رسائل المؤسسة العسكرية والأمنية واحد: على الحكومة والمجتمع في إسرائيل وقف كرة الثلج المتدحرجة
لا تعني هذه التحذيرات والتقييم أننا حتماً أمام حرب أو معارك في الأشهر القريبة. هذه التحذيرات مفادها بأن البيئة الاستراتيجية لإسرائيل تغيرت في الأشهر الأخيرة بشكل جدي، وأن هذا التغيير يشكل تحدياً جدياً للأجهزة الأمنية والجيش الإسرائيلي.
ولا نستبعد أن تقوم الاستخبارات العسكرية بتضخيم التقييمات وتهويل المخاطر، بغية ردع التحالف الحكومي وضبط حدود الاحتجاجات في الشارع الاسرائيلي، خصوصاً أن نتنياهو تجاهل رسائل أجهزة الأمن عبر القنوات الرسمية، ورفض على سبيل المثال اللقاء برئيس الأركان أفيف كوخافي قبل إقرار قانون تقييد "حجة المعقولية". كذلك رفض وزير القضاء الاستماع إلى وزير الأمن يوآف غالانت، في جلسة سن القانون، والذي توسل إدخال تغيير ولو بسيط في اقتراح القانون لتخفيف حدة الانقسام في قوات الاحتياط، ولكن من دون فائدة.
رسائل الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية
الاستخبارات العسكرية، المسؤولة عن التقييم الاستراتيجي لإسرائيل، وبعد أن فشلت أدوات التأثير التقليدية وبالقنوات العادية، تريد أن تستغل مكانتها الخاصة في المجتمع وحساسية المجتمع للمعايير الأمنية، لكي توضح للتحالف الحكومي أن عليه ضبط عملية سن القوانين، والتوقف عن سنها دون تفاهم واسع مع المعارضة، لأن ذلك يفتت المجتمع الإسرائيلي والجيش.
كما ترسل شعبة الاستخبارات رسالة واضحة إلى قوات الاحتياط، التي أعلن جزء منها نيته وقف التطوع، أن ما يجري يشكل خطراً أمنياً حقيقياً على إسرائيل، وأن رفض التطوع يساهم في تغيير معادلات الردع في المنطقة، ويؤدي إلى تراجع عظمة وقوة إسرائيل أمام الأعداء.
كذلك تبعث برسالة إلى حركات الاحتجاج مفادها بأن تعميق التصدعات واستمرار الخلافات يشكل تهديداً جدياً على مناعة المجتمع الإسرائيلي، الذي طالما شكل ركناً أساسياً من مقومات الأمن القومي، وأن إيران و"حزب الله" بدآ باستغلال هذا التصدع لتغيير معادلات الردع والاشتباك، وقد يذهبان باتجاه امتحان قوة وتماسك المجتمع والجيش في إسرائيل.
كما ترسل شعبة الاستخبارات رسالة إلى الولايات المتحدة والدول العربية الصديقة لإسرائيل، بأن الخلافات مع إسرائيل بسبب خطة تقييد القضاء والتقارب مع إيران قد يُترجم من قبل الأخيرة كضعف لإسرائيل ويزيد من احتمالات التصعيد.
رسائل المؤسسة العسكرية والأمنية متعددة العناوين لكن مضمونها واحد. على الحكومة والمجتمع في إسرائيل وقف كرة الثلج المتدحرجة قبل فوات الأوان.
وقد تكون هذه الرسائل حفزت عدداً من أعضاء التحالف، ووفرت الشرعية الأمنية اللازمة للخروج علناً ضد استمرار سن قوانين خطة تقييد القضاء من دون تفاهم واسع مع المعارضة، خاصة أعضاء من حزب الليكود.
واعتبر رئيس لجنة الأمن والخارجية في الكنيست، يولي إدلشتاين، بعد أيام من نشر تحذيرات شعبة الاستخبارات، أنه غير ملتزم بتأييد تشريعات القوانين المقبلة ضمن خطة إضعاف القضاء، فيما ربط عضو الكنيست عن "الليكود"، إيلي دلال، دعمه للتشريعات فقط في حال جرى التوصل إلى "اتفاق واسع" حولها.
رسائل شعبة الاستخبارات والأجهزة الأمنية تزامنت مع إطلاق حملة إعلامية، نهاية يوليو الماضي، حول عقد اجتماعات خاصة للحكومة المصغرة مع أجهزة الأمن لنقاش التطورات على الحدود الشمالية.
هذا النشر قد يكون جزءاً من حرب نفسية تستعملها الأجهزة الأمنية لوقت التدهور السياسي من جهة، وقد يستغلها نتنياهو أيضاً لردع الاحتجاجات من جهة أخرى. بحيث نشرت وسائل إعلام إسرائيلية، نهاية يوليو، أن الجيش الإسرائيلي عزز قواته على الحدود مع لبنان وذلك عشية جلسة لنتنياهو مع غالانت وكبار المسؤولين في الجيش إثر تهديدات نصر الله.
وقال المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس"، عاموس هرئيل، أخيراً، إن "المحور الشيعي" يعزز قدراته بينما تنهمك إسرائيل في مشاكلها الداخلية، التي تهدد بتفتيت الجيش والجهاز الأمني. وأوضح يوسي يهوشوع، المحلل في موقع "واينت" الإخباري، أن أعداء إسرائيل يشخصون فرصة تاريخية لإضعافها، إثر الخلافات الداخلية.
قناعة بأن التحالف ماضٍ في خطة إضعاف القضاء
الحملة المتزامنة من قبل شعبة الاستخبارات والأجهزة الأمنية، لرفع مستوى تخويف المجتمع الإسرائيلي، تعني أن المؤسسة الأمنية باتت على قناعة بأن التحالف الحكومي ماضٍ في خطة تقييد القضاء، وأن لا شيء يردعه، لا الاحتجاجات في الشارع، ولا التراجع الاقتصادي، ولا تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة، ولا التصدعات الحالية في المؤسسة العسكرية.
كما أنهما على قناعة بأنه لا يوجد إمكانية بأن تقوم المحكمة العليا بمنع سن القوانين أو وقف سريان مفعولها، لذلك لجآ إلى "البقرة المقدسة" الإسرائيلية، وهي التهويل والتخويف من استغلال "أعداء" إسرائيل لهذه الحالة، وأن الخطر حقيقي وفوري، ويمكن أن يكون ملموساً على المدى المتوسط، لعل هذا التخويف يردع الجميع، التحالف والمعارضة وحركات الاحتجاج.