نقص الكوادر
يبدو الضغط الداخلي على التنظيم واضحاً بعد سلسلة الهزائم التي مُني بها في كل من عين العرب والشدادي وتدمر والقريتين وغيرها، ولهذا قام "داعش"، حسب عضو الشبكة السورية لحقوق الإنسان محمد الخليف، وهو أحد أبناء دير الزور، بـ"استنفار جميع كوادره على جبهات القتال". وأشار الخليف في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إلى أنه "حتى عناصر ما يُسمى بالحسبة وهم المسؤولون عن البلدات والمدن، قلّ عددهم بشكل ملحوظ، إذ بدأ التنظيم يستشعر الخطر من التوافقات الدولية لدعم النظام لمحاربته، ما سمح للأخير بأن يحقق تقدّماً في تدمر والقريتين بريف حمص على حساب داعش، في وقت يعاني فيه الأخير من نقص في المقاتلين مع وجود عدة جبهات مفتوحة لديه". ولفت الخليف إلى أن هذا الأمر "دفع داعش للتضييق على الشباب لإجبارهم على مبايعته والقتال ضمن صفوفه، خصوصاً الذين كانوا يقاتلون في صفوف تنظيم جبهة النصرة، أو صفوف فصائل الجيش الحر، كما أجرى لقاءات مع العشائر في ريف دير الزور الشرقي، مخاطباً إياها بالترهيب والترغيب، لكي تدفع أبناءها للقتال إلى جانبه، محذراً إياها من خطر سيطرة النظام أو قوات سورية الديمقراطية، قائلاً إنها ستواجه مصير مقاتلي التنظيم".
وكان قادة من "داعش" ومنهم عبد الناصر العراقي، وأبو دجانة الزر "أمير" "داعش" في ريف الدير الشمالي، عقدوا في النصف الثاني من الشهر الماضي اجتماعاً مع العشائر في قرية الصبحة الواقعة في ريف دير الزور الشرقي، وهو الاجتماع الثالث من نوعه، وبحثوا خلاله تطورات الأوضاع في المنطقة و"خطر" قوات النظام و"قوات سورية الديمقراطية"، محاولين الضغط على أهالي المنطقة لإرسال أبنائهم إلى القتال. فيما كان جواب العشائر "دبلوماسياً"، إذ مع تأكيدها "ولاءها" للتنظيم، لم تلزم نفسها بإرسال أبنائها للقتال.
وأوضح الخليف في تصريحاته لـ"العربي الجديد"، أنه "حتى الوضع الاقتصادي لداعش يبدو متضعضعاً، فقد عمد في الأشهر الأخيرة إلى تخفيض رواتب مقاتليه، ورفع الضرائب المفروضة على الناس، وأصبحت الضرائب شهرية بعد أن كانت فصلية، في وقت تم فيه فرض ضرائب جديدة، منها ما فُرض على ري الأراضي الزراعية، يضاف إليها نسب الزكاة المفروضة على المواسم، ناهيك عن المصادرات الدائمة، حتى إن العمال المدنيين الذين كانوا يتقاضون رواتب من التنظيم، مضت عليهم 3 أشهر بلا رواتب"، لافتاً إلى "خسارة التنظيم لعدة مناطق مهمة، مثل الشدادي في ريف الحسكة الجنوبي، وخروج حقل كونكو للغاز أهم الحقول في دير الزور، عن الخدمة منذ أكثر من شهر، في وقت لم يستطع فيه التنظيم بعد إصلاحه بسبب القصف المتواصل". وأوضح أن "حركة تجارة النفط تراجعت عما سبق، بسبب الخوف من القصف، في حين هناك العديد من الطرق التي شُلّت، كطريق دير الزور الرقة، وطرق بادية حمص".
عدو الجميع
وقال الخليف إنه "في ظل تدهور أوضاع داعش والإجماع الدولي على الدفع بالنظام والفصائل المعارضة لقتاله، بادر التنظيم إلى شن هجوم واسع على مناطق النظام في دير الزور وريف دمشق في ضربة استباقية، علّه يخفف من وطأة الهجوم الذي يُشنّ عليه، ولا يعطي انطباعاً على تفوّق للنظام، وهو الذي عمل طويلاً على صورته الإعلامية المبنية على التخويف والإبهار، ويعرض بشكل شبه يومي قتلى في الشوارع على أنهم من مقاتلي النظام أو الأكراد". وكشف الخليف أن "داعش متوجّس أيضاً من أهالي دير الزور، الذين بدأوا يشعرون بضعف التنظيم، خصوصاً مع تقدّم "جيش سورية الجديدة" المدعوم أميركياً إلى بادية البوكمال، مع وجود إذاعة "المقاومة" التي تغطي العمليات ضد التنظيم في معظم المناطق الشرقية، وهي المناطق التي كثرت فيها بالفترة الأخيرة عمليات الاغتيال وضرب الدوريات والمعسكرات من قِبل مجموعات المقاومة، إضافة إلى استهداف الطيران الحربي أيضاً لنقاط مهمة وقيادات للتنظيم".
وتُعتبر خارطة القوى والصراعات في دير الزور معقدة جداً، إذ يوجد "جيش سورية الجديدة"، المدعوم من الغرب والمدرب في الأردن، وقوامه نحو 1000 مقاتل مدربين ومجهزين بعتاد جيد، إلا أن قاعدتهم الشعبية ضعيفة، لأن معظمهم كانوا في المجلس العسكري في دير الزور، الذي وُجّهت له الكثير من الاتهامات. هذا الأمر جعل مقاتلي هذا الجيش يعملون على التنسيق مع "أسود الشرقية"، التابعين لـ"جبهة الأصالة"، وعددهم نحو 300 مقاتل، إلا أنهم معروفون أنهم من أشرس المقاتلين في دير الزور، وهؤلاء يحاولون التقدّم من معبر التنف على الحدود السورية العراقية، إلى المحطة الثانية باتجاه البوكمال، إلا أن التحدّي الأكبر هو احتمال تلقيهم ضربات من مقاتلي "داعش" من جهة العراق.
وبحسب الخليف "يوجد توجّه لدى الجميع اليوم لقتال التنظيم وحصره في ريف دير الزور الشرقي، إذ إن الموالين للنصرة من أبناء المنطقة الذين سبق أن خرجوا إلى درعا إثر سيطرة التنظيم على مناطقهم، عادوا اليوم إلى إدلب وحلب، وهناك تحضيرات لقتال داعش، في وقت ما زالت فيه الفصائل الإسلامية في الشمال كجيش الإسلام وأحرار الشام ومجموعات أخرى، ترفض القتال تحت إمرة التحالف الغربي أو الطيران الروسي لأسباب عقائدية، إذ يخشى قادة تلك الجماعات من حدوث انشقاقات في صفوف مقاتليها العقائديين جراء مثل هذه التحالفات"، معرباً عن اعتقاده بأن "الحديث عن تحالف إسلامي يأتي في السياق نفسه لإمكان تصدّره الواجهة في الحرب على داعش والنصرة".
بوابات الدخول إلى دير الزور
أما عن سيناريوهات التقدّم إلى دير الزور، فلفت الخليف إلى أن "هناك فرصة للنظام للتقدّم من اتجاه السخنة في ظل الدعم الدولي الكبير المساند له، أكان من الروس أو التحالف الدولي"، لافتاً إلى أن "هناك سيناريو آخر وهو تقدّم "كتائب النخبة" المكوّنة من مقاتلي قبيلة الشعيطات، من تل أبيض حيث يبعدون عن دير الزور بضعة كيلومترات، ولهم تأييد شعبي، لكنهم بحاجة لدعم". وأعرب عن اعتقاده أنه "لو تم حشد بعض الفصائل في تل أبيض، فهناك فرصة كبيرة للتقدّم خلال أيام إلى بلدة الصور أبرز بلدات ريف دير الزور الشمالي، ما يفتح أمامها بوابة دير الزور ويعطيها دعماً شعبياً قوياً ويدفع الكثير من الفصائل الصغيرة للحاق بها إلى الريف الجنوبي، إن استطاعت هذه الفصائل اكتساب ثقة الأهالي التي فقدتها الفصائل المسلحة المعارضة بسبب أخطائها وتشرذمها سابقاً".
وأضاف: "أما قوات سورية الديمقراطية، وعمادها القوات الكردية، فقد توقفت في بلدة مرقدة بريف الحسكة الجنوبي، عقب سيطرتها على مدينة الشدادة التي كانت من أهم المناطق الاقتصادية للتنظيم، وقد جاء توقّفها على الرغم من إمكانية تحقيق تقدّم أكثر، بسبب مخاوفها من رد فعل أهالي قرى وبلدات دير الزور الذين يكرهون هذه القوات".
ويعاني أهالي دير الزور اليوم من مشكلة كبيرة وهي عدم وجود القوى البشرية القادرة على ملء الفراغ الذي يخلّفه انسحاب "داعش"، فمن أصل مليون ونصف المليون شخص كانوا يعيشون في دير الزور قبل العام 2011، لا يزيد عدد من بقي في دير الزور اليوم عن 600 ألف شخص، معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن. فالآلاف من شباب المنطقة الذين كانوا يقاتلون مع فصائل الجيش الحر، شُرّدوا في أنحاء العالم بعد انسحابهم من المنطقة مع سيطرة التنظيم عليها، إلى تركيا، وهناك انتظروا لأشهر عانوا خلالها الأمرّين، فناموا في الطرقات والحدائق، ولم يلقوا الاهتمام اللازم من قبل الحكومة المؤقتة، التي قدّمت لهم مساعدة مرة واحدة في العام 2014 بمبلغ 70 دولاراً، ما دفعهم للبحث عن حلول فردية، فمنهم من وصل إلى أوروبا، ومنهم إلى دول الخليج ويحاولون العودة لحياتهم الطبيعية، واليوم أصبحت فكرة العودة إلى دير الزور مستبعدة بالنسبة لهم بشكل كبير.
صراعات العشائر
تُعدّ المناطق الشرقية والشمالية في سورية مناطق عشائرية، محكومة بصراعات تاريخية، إن كان على السلطة المحلية أو الاقتصادية، إضافة إلى وجود ثأر بين هذه العشائر راح ضحيته عشرات الأشخاص خلال العقود الأخيرة. ومع تطور الأوضاع في مناطق العشائر واختلاف القوى المسيطرة، تعمّقت الصراعات وازدادت المخاوف من انتشار حالات الثأر وحدوث صراعات دموية بين العشائر. ومن هذه الخلافات اليوم على سبيل المثال، رفض عشائر الشعيطات المنتمية إلى عشيرة العكيدات، هذا الانتماء بسبب وجود عشيرة البكير، التي بات الكثير من أبنائها من قادة "داعش" وكانوا مسؤولين عن ارتكاب مجازر بحق أبناء الشعيطات.
وتُعتبر الخلافات بين العشائر صراعات تاريخية كانت دائماً تحتقن وتهدد بالانفجار، فعشائر شمر تم طردها في سبعينيات القرن الماضي من دير الزور، لأنها في زمن الاحتلال الفرنسي كانت تغزو العديد من مناطق العشائر التي شعرت بالإهانة، الأمر الذي دفع تلك العشائر للاتحاد ضمن عشيرة العكيدات، ونجحت في صدّ شمر وطردها إلى ريف الحسكة الجنوبي. واليوم هناك طموح لدى الأخيرة للسيطرة على دير الزور، إذ تقاتل شمر بقيادة حميد الجربا إلى جانب "قوات سورية الديمقراطية"، وقد أصبح لها دعم على كافة الصعد، كما أنها تسيطر على ريف الحسكة الجنوبي الملاصق لريف دير الزور الشمالي.
ويستفز تقدّم شمر باتجاه دير الزور عشائرها، التي تعتبر وصول شمر إلى المنطقة إهانة كبيرة لها، في حين أن من تبقّى من شباب العكيدات عقب المجازر والهجرة، هم في صفوف فصائل "جيش الإسلام" و"أحرار الشام" و"النصرة". ولم يعد العصب العشائري اليوم هو الأقوى، فقد ضعف أمام العصب العقائدي، وهذا ملحوظ في انقسام أبناء العشيرة بين التنظيمات وخصوصاً بين "داعش" و"النصرة"، ما تسبب بقتال بين أبناء العمومة. ويعتبر البعض أن استعادة دير الزور اليوم من "داعش" قد تكون عبر إحياء العصب العشائري من جديد، في ظل المخاوف من تقدّم الأكراد أو النظام، وهذا يجب أن يترافق مع وجود تحالف إسلامي يدعم تلك العشائر عسكرياً، ويكسبها ثقة ودعماً شعبياً.
ومن الملاحظ أن أبناء دير الزور بدأوا يتنبهون إلى واقع البلاد وتطورات الملف السوري، متوجهين إلى تشكيل قوى سياسية، كـ"حركة النشاط السياسي"، و"تجمّع أبناء دير الزور"، و"مجلس العشائر"، في محاولات منهم للقيام بدور سياسي في الحل السوري.