يتحرك المشهد السياسي في المغرب على وقع جدال لافت حول تعديلات مدونة الأسرة (قانون الأحوال الشخصية) التي تثير نصوصها حساسية كبيرة في المملكة، بما قد يضعه مجدداً في قلب استقطاب حاد بين الإسلاميين وفعاليات يسارية وأخرى مدافعة عن حقوق النساء.
تبادل اتهامات بين الإسلاميين والحداثيين
وبدأ كل شيء حين قرّرت "تنسيقية المناصفة" (غير حكومية)، بتنسيق مع جمعيات نسائية، تنظيم ندوة في دار المحامي بمدينة الدار البيضاء في الثالث من مارس/ آذار الحالي، بعنوان "من أجل المساواة في الإرث"، في حدث أثار موجة انتقادات حادة من حزب "العدالة والتنمية" (ذو مرجعية إسلامية) المعارض. وسارع الأمين العام للحزب، عبد الإله بنكيران، إلى إطلاق تحذير من الدعوات إلى المناصفة في الميراث، بدعوى أنها "تفتح الأبواب أمام التطرف والمجهول"، وأنها تمثل "خطراً على العلاقات داخل الأسرة، وعلى شرعية وقداسة كتاب الله، وبالتالي اندثار الأساس التي تقوم عليها الدولة المغربية".
وفي كلمة مصورة بثّها على حسابه الرسمي بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" في الرابع من الشهر الحالي، رأى بنكيران أن من نتائج إقرار المناصفة في الميراث "خلق مشكل سياسي، من جهة أن ملك البلاد (محمد السادس) هو أمير المؤمنين، وأن إمارة المؤمنين تقوم على القرآن الكريم وسنّة رسول الله وعلى البيعة، التي هي الأساس"، محذراً من وصفهم بـ"نبتة السوء" من مغبّة ما يدعون إليه.
بنكيران: الدعوات إلى المناصفة في الميراث تفتح الأبواب أمام التطرف والمجهول
غير أن اتهامات بنكيران بحق اليساريين والحداثيين لم تمرّ مرور الكرام، حيث وجدت فعاليات يسارية في الاحتفال باليوم العالمي للمرأة، الفرصة الموائمة لمهاجمته، كما كان مع "منظمة النساء الاتحاديات" (التنظيم النسائي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المعارض) التي شجبت التصريحات والبيانات الصادرة عمّا وصفته بـ"تنظيم حزبي محافظ".
واعتبرت المنظمة أن هذه التصريحات "تكتسي خطورة بالغة بما تحمله من تطاول على اختصاصات ملكية خالصة بمقتضى الدستور، باعتبار الملك أمير المؤمنين، وبما يكتنفها من دعوات للتجييش عبر توظيف ماكر وغير مسؤول للمشترك الديني".
وبينما أعلنت "النساء الاتحاديات"، في بيان الثلاثاء الماضي، أن "محاولات التخويف وتأليب الرأي العام عبر الكذب والتضليل لن ترهبهن"، اعتبر حزب "التقدم والاشتراكية" المعارض، في بيان صادر عن مكتبه السياسي يوم الأربعاء الماضي، أن "مقاربة مسألة المساواة، باعتبارها قضية تتقاطع فيها الأبعاد الثقافية والديمقراطية والتنموية والاجتماعية والاقتصادية، تستدعي الحرص التام على أن يتم ذلك في إطار جو النقاش الهادئ والبناء، الرزين والهادف"، "دون السقوط في منطق التخويف والترهيب والتخوين والتهديد والاتهامات الخطيرة والتراشقات العقيمة".
المساواة بالإرث بين الدستور وخطاب محمد السادس
وينص الدستور المغربي على أن الديانة الرسمية للبلاد، هي الإسلام، فيما يستمد من تعاليمه مجموعة من القوانين، كـ"الزواج والإرث". إلا أن التعديلات التي أدخلت على الدستور سنة 2011، أضافت فصلاً كاملاً (الفصل 19) ينص على "المساواة بين الجنسين في الحقوق والحريات"، وعلى أن الدولة "تسعى إلى تحقيق مبدأ المناصفة بين الرجال والنساء، وتحدث لهذه الغاية، هيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز".
وكان خطاب الملك محمد السادس، بمناسبة عيد العرش (31 يوليو/ تموز الماضي)، قد فتح الباب مجدداً أمام النقاش بشأن تعديل مدونة الأسرة بعد مرور 19 سنة على اعتمادها، حيث طفت على السطح أسئلة عدة عن نطاق التعديلات المرتقبة والمرجعية المؤطرة لها.
وقال الملك المغربي في جانب من خطابه حول المدونة: "الأمر هنا، لا يتعلق بمنح المرأة امتيازات مجانية، وإنما بإعطائها حقوقها القانونية والشرعية. وفي مغرب اليوم، لا يمكن أن تُحرَم المرأة حقوقها". وأضاف: "ندعو إلى تفعيل المؤسسات الدستورية، المعنية بحقوق الأسرة والمرأة، وتحيين الآليات والتشريعات الوطنية، للنهوض بوضعيتها".
واعتبر الملك أنه "إذا كانت مدونة الأسرة قد شكلت قفزة إلى الأمام، فإنها أصبحت غير كافية، لأن التجربة أبانت أن هناك عدة عوائق، تقف أمام استكمال هذه المسيرة، وتحول دون تحقيق أهدافها". لكن الملك المغربي عاد وأكد قائلاً: "لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله، لا سيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية، ومن هنا نحرص على أن يتم ذلك في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح والتشاور والحوار وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية".
وفي وقت لا يبدو فيه أن الجدال بين الإسلاميين واليساريين والحداثيين في المملكة سينتهي هنا، إلا أنه يثير أسئلة عدة عن دوافعه ومآله وإن كان سيبعث، من جديد، بصراع قديم بين التيارين الأيديولوجيين، كان قد ظهر للمرة الأولى في عام 1999 خلال مناقشة "خطة إدماج المرأة في التنمية" إبان حكومة التناوب التوافقي.
في حينه، عاش المغرب على وقع استقطاب وانقسام حادين وصل مداهما إلى النزول إلى الشارع، بين معسكر الإسلاميين (شعبيين ورسميين) الذين اعتبروا الخطة محاولة للابتعاد عن أحكام الشرع الإسلامي وإسقاط مسحة غربية على القوانين الخاصة بالأسرة والنساء، ومعسكر اليساريين الذين رأوا فيها مقاربة شمولية للنهوض بأوضاع المرأة.
وبينما مالت الكفة في مرحلة أولى إلى التوجه المدافع عن المرجعية الإسلامية، بعدما تمكن معسكر الإسلاميين من خلال مسيرة نظمها في الدار البيضاء في 12 مارس 2000، حشد أكثر من مليونين من المناهضين للخطة، على خلاف تجمع المؤيدين للخطة الذين لم تجمع مسيرتهم في الرباط سوى 100 ألف مشارك، حسم إحداث العاهل المغربي الملك محمد السادس اللجنة الملكية الاستشارية لتعديل قانون الأحوال الشخصية، بشكل نهائي، الصراع بين الطرفين، بإخراج مشروع "مدونة الأسرة" إلى حيز الوجود في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2004.
سياقات اجتماعية تحتّم النقاش
ويعتقد أستاذ القانون العام والعلوم السياسية في جامعة محمد الخامس بالرباط، عبد العالي حامي الدين، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن هناك اختلافات جوهرية بين السياق السياسي والاجتماعي الذي أطّر النقاش في مشروع "خطة إدماج المرأة في التنمية" والسياق الحالي، وذلك من زوايا عدة. وأولى هذه الزوايا، بحسب رأيه، أن الخطة كانت مبادرة حكومية رسمية في عهد حكومة عبد الرحمن اليوسفي، وتبناها وزير يساري بمقاربة سياسية/أيديولوجية محكومة بخلفية المساواة الميكانيكية.
وثانيها، وفق حامي الدين، أنه لم تُعتمَد أي مقاربة تشاركية بين الفاعلين الأساسيين في موضوع يهمّ أفراد المجتمع كافة، ولم تكن محل إجماع، حتى داخل الحكومة نفسها، وهو ما أدى إلى غضب شعبي وإلى احتقان مجتمعي كبير آنذاك.
تعديلات الدستور عام 2011، أضافت فصلاً كاملاً ينص على المساواة بين الجنسين في الحقوق والحريات
وبحسب حامي الدين، فإن الوضع الآن "مختلف بدوره من زوايا عدة، إذ إن مبادرة تعديل المدونة جاءت من الملك الذي لاحظ اختلالات في فهم وفي تطبيق بعض مقتضياتها، ما يجعلنا هنا أمام تعديل جزئي بأهداف محددة، ولسنا بصدد المراجعة الشاملة والعميقة كما يطالب البعض".
ويوضح أستاذ القانون العام والعلوم السياسية أن الخطاب الملكي في عيد العرش الأخير حسم منهجية ومرجعية النقاش منذ البداية في إطار حقل إمارة المؤمنين، حيث جُدِّد التأكيد أن الملك بصفته أميراً للمؤمنين "لن يُحلّ حراماً ولن يحرّم حلالاً"، لافتاً إلى أن النقاش الحالي لن يصل إلى درجة الصراع والاستقطاب المجتمعي، لكنه سيعكس الاختلافات الطبيعية الموجودة بين الفاعلين في النظرة إلى هذا الموضوع.
ووفق حامي الدين، فإن النقاش الموجود حالياً ينبغي أن يكون محكوماً بعقلانية أكبر، باستحضار الهدف الأساسي له، ألا وهو تعزيز وتقوية مكانة الأسرة وحماية جميع مكوناتها، رجالاً ونساءً وأطفالاً، وبلورة التعديلات القانونية الكفيلة بذلك. ويلفت في هذا الإطار إلى أن الكثير من مظاهر الحيف التي تعاني منها مكونات الأسرة تحتاج إلى تطوير سياسات عمومية في الجانب الاقتصادي والاجتماعي لمعالجة مظاهر الأمية والفقر والهشاشة والحرمان الاجتماعي، وهي الأسباب العميقة للعديد من الإشكاليات المتعلقة بالأسرة.
ويرى أستاذ القانون العام والعلوم السياسية، أن الاتجاه "المحافظ" أصبح مطالباً أكثر بفهم واقع المرأة والأسرة والانتباه إلى الاختلالات الموجودة على الأرض التي ينبغي إيجاد الحلول اللازمة لها، كذلك فإن الاتجاه "الحداثي" مطالب باستيعاب ثوابت العيش المشترك بين أبناء المجتمع المغربي، وهي الثوابت المستقرة في الدستور التي ينبغي الاجتهاد في إطارها.
من جهته، يعتبر أستاذ القانون الدستوري في جامعة الحسن الأول في سطات، عبد الحفيظ اليونسي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن النقاش في الإرث يتجاوز صراع محافظين وحداثيين أو إسلاميين وعلمانيين، وأنه قد يحرج من يمثل الإسلام الرسمي الذين هم امتداد لإمارة المؤمنين مؤسساتياً، وبالضبط المجلس العلمي الأعلى، لأن مسألة المناصفة أو التساوي في الإرث في وضعيات معينة فيها مراجعة مباشرة مع النص الديني الصريح الذي يعضده اجتهاد فقهي متواتر تاريخياً.
ويضيف: "من المؤكد أن الدعوة إلى المناصفة في الإرث ستحيي الصراع الحدي الثنائي، لكن في الوقت نفسه، إن خطاب الملك قد يحدد مآلات أي مراجعة لهذا المستوى". وباعتقاد أستاذ القانون الدستوري، فإن "هذه الدعوة ستظل محدودة"، معتبراً إياها "تهريباً للنقاش نحو قضايا هي بالنسبة إلى المجتمع محسومة، في حين أن هناك قضايا حقيقية لا يُلتفَت إليها".
لكن الباحثة في العلوم السياسية شريفة لموير، ترى أن الجدل الذي أثاره "العدالة والتنمية" بشأن المناصفة في الإرث "محاولة لاستمالة المواطنين واللعب على وتر العواطف أكثر من أن يكون اختلافاً جوهرياً، على اعتبار أن المواطن المغربي يعتبر أن المسائل الدينية مقدسة ولا يرحب بالاجتهادات في ما يتعلق بها".
وتوضح لموير في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "محاولة افتعال مواجهة مع التيار الحداثي والحركات النسائية من طرف التيار الإسلاموي يجعل من ورش إصلاح مدونة الأسرة معركة رئيسية، وهو ما يحاول من خلاله هذا التيار إعادة سيناريو خطة إدماج المرأة في التنمية منذ عقدين، الذي كان صراعاً استفاد منه الحزب وشكل انطلاقة حقيقية له، لذلك تبقى كلها محاولات لرسم ذات السيناريو وكسب تعاطف المغاربة"، بحسب رأيها.
وبالنظر إلى كون ورش الإصلاح الذي تعرفه مدونة الأسرة جاء بمبادرة ملكية، وتأكيد الملك صراحة أنه "لن يُحلّ ما حرّم الله ولن يحرّم ما أحلّ الله"، ولا سيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية، وبأن ذلك الإصلاح سيكون في إطار مقاصد الشريعة الاسلامية وخصوصيات المجتمع المغربي، فإن ذلك يجعل تصريحات "الإسلاميين بلا معنى، وتبقى محاولات للخروج إلى الأضواء"، بحسب لموير.