في الوقت الذي كان فيه وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، يحزم حقائبه لإجراء زيارة رسمية للصين، هي الأولى من نوعها منذ 6 سنوات، دخلت أزمة المنطاد على الخط بصورة صادمة فرضت تأجيل الرحلة، وربما أطاحت احتمال حصولها في وقت لاحق، بعد رصد تحليق "منطاد تجسس صيني" فوق الأراضي الأميركية.
وخضّ الاختراق غير المتوقع واشنطن، حيث بدا أقرب إلى التحدّي، بصرف النظر عن مقاصده. وزاد من وقعه أنه جاء في لحظة تحتاج فيها إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى "تلطيف" العلاقات المشحونة مع بكين وجعلها "علاقات عمل" كما يدعو وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر. وإذا بهذه المفاجأة المحرجة والمربكة تنسف زيارة بلينكن المخصصة لهذا الغرض، وتزيد طينة التوتر بلّة مع بكين، التي تشدد على أن المنطاد انحرف بالخطأ عن مساره، وأنه مخصص للأبحاث في مجال الأرصاد الجوية.
وأكثر ما يربك فيها، كان توقيتها ومدى التوغل في اختراقها. وقد انعكس ذلك في طوفان الأسئلة والتفسيرات حول ملابساتها: لماذا الآن؟ هل جاءت لتخريب زيارة بلينكن؟ وفي هذا الخصوص ثمة من لا يستبعد أن تكون العملية من صنع العسكر ومن غير موافقة القيادة السياسية الصينية، وهو ما يتعارض مع المعروف عن وحدانية القرار والمرجعية في الصين، وإذا كان قد وُجِّه المنطاد بقرار القيادة، فهل هو عملية تجسس؟ أم فعلاً هو مهمة استطلاع مناخي، كما تقول بكين؟ ثم إذا كان للتجسس، فهل هو أقدر من الأقمار الصناعية المتوافرة؟
من جانبها، اكتفت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بتصنيف وجود المنطاد المشبوه على أنه عملية "مراقبة". وفي ذلك إقرار ملتوٍ بأن مهمته تجسسية. وتعزز هذا الاحتمال بكون المنطاد قد دخل الأجواء الأميركية من فوق ولاية مونتانا المتاخمة للحدود الكندية، التي توجد على أرضها أهم صوامع الصواريخ النووية العابرة للقارات.
هذا المسار ترك علامات استفهام كبيرة حول الزعم الصيني بأن المنطاد الذي يحوم الآن على علو 60 ألف قدم فوق شريط يمتد من شمال الوسط باتجاه أواسط الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة، سلك هذا السبيل بعد أن ضلّ طريقه نتيجة خروجه عن سيطرة التحكم بوجهته. تبرير صيني من الصعب تسويقه في واشنطن، ولا سيما في ظلّ الخلافات الكثيرة وحالة التوتر السائدة بين الجانبين حول قضية تايوان التي هددت بخطر الاحتكاك العسكري في الصيف الماضي. وحتى إذا كانت مسألة خروج المنطاد عن السيطرة، فلماذا إطلاقه الآن باتجاه أميركا الشمالية بالتزامن مع زيارة مقررة لتبريد الأجواء بين البلدين؟ هل هي صدفة؟ أم رسالة؟ أم "فركشة" مدروسة للتحاور؟ وازداد التوجس خاصة في صفوف الصقور في الكونغرس، عندما تبين أمس الجمعة، حسب البنتاغون، أن هناك منطاداً صينياً آخر يحوم فوق أميركا الجنوبية. فإذا كانت المهمة مناخية، فلماذا لم تُعلَن مسبقاً؟
بقاء هذه الأسئلة مفتوحة زاد من الحيرة والشكوك الكثيرة أصلاً، بقدر ما أدى إلى الارتباك بخصوص الزيارة كما بشأن التدابير الإجرائية المطلوبة. في الساعات الأولى دار جدل حول خيارات التأجيل والإلغاء مقابل المضي فيها. الإدارة تريثت في البداية لترسو على الأول لحسابات تتعلق بأولوياتها الراهنة. البنتاغون كان شديد التحفظ في مؤتمره الصحافي. تذرّع بسرية المعلومات الاستخبارية، واكتفى بالطمأنة بأن المسألة "تحت المراقبة" وأنه "يدرس الخيارات" المتاحة.
ومن الخيارات التي ترددت "إسقاط المنطاد"، ولو أنه حسب المداولات، خيار مستبعد، بحجة أن حطام هذا الجسم الموازي لحجم 3 حافلات قد يسبب أضراراً بشرية. لكن يبدو أن السبب يتعلق بالتجهيزات التي تحرص الجهات المعنية على الاطلاع عليها لاستبيان حقيقة المهمة. وعليه، يجري البحث عن إمكانية إنزال المنطاد للاطلاع على حمولته. لكنها عملية غير ميسورة، ما بقيت مفاتيح التشغيل غير متاحة. وما زال القرار غير واضح فيما الوقت ضاغط، إذ في التقدير أن يدخل الزائر الجوي في أجواء المياه الدولية للمحيط الأطلسي بعد أيام قليلة قد لا تزيد على يومين. فالمسألة "جدّية" والإدارة تعمل على تقليل الخسائر في عملية كشفت عن ثغرات أمنية واستخباراتية.
كذلك كشفت عن خطأ في حسابات الإدارة وسياستها تجاه الصين التي سُجلت عليها مآخذ كثيرة، سواء من المتشددين في واشنطن، كما من الجهات التي طالما لفتت إلى ضرورة وأهمية بناء علاقات "متوازنة" مع بكين، على نقيض سياسة التجريب وجسّ النبض على طريقة هبّة باردة وهبّة ساخنة التي اعتمدتها إدارة بايدن منذ مجيئها والتي ميزت سياستها الخارجية عموماً.