تدل كل المؤشرات على أن قدرة قيادة السلطة الفلسطينية على مواصلة التشبث باستراتيجية المراوحة في المكان، وعدم اتخاذ قرارات جدية لمواجهة التحرك الإسرائيلي الأميركي الهادف إلى تصفية القضية الفلسطينية، تتقلص بشكل كبير. فوتيرة الإجراءات التي أقدمت عليها إسرائيل، والتشريعات التي سنتها أخيراً بوتيرة عالية، نسفت فرص التوصل لتسوية سياسية للصراع، إذ إنها تهدف بشكل واضح إلى حسم مسبق لمصير الأراضي الفلسطينية المحتلة عبر توفير بيئة قانونية وتنظيمية تحسن ظروف المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس المحتلة.
فعندما يلزم حزب "الليكود" الحاكم وزراءه ونوابه بالعمل على فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وعندما يقر الكنيست الإسرائيلي بشكل نهائي قانون "القدس الموحدة"، الذي يخرج المدينة من دائرة التفاوض، فإن أي استعداد فلسطيني لخوض غمار تسوية سياسية للصراع في ظل هذا الواقع سيفسر على أنه تسليم بتصفية القضية الفلسطينية، لا سيما وأن حكومة اليمين المتطرف في تل أبيب لم تقل بعد كلمتها الأخيرة بشأن التشريعات والإجراءات الهادفة إلى تهويد الضفة الغربية، إذ إن هناك توافقاً داخل الائتلاف الحاكم على دفع مشروع E1، الذي سيربط القدس بمستوطنة "معاليه أدوميم"، والذي سيفضي إلى فصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها بشكل نهائي، بحيث أنه لن يكون بالإمكان بعد إنجاز المشروع عن دولة فلسطينية "متصلة". إلى جانب ذلك، فإن الحكومة الإسرائيلية تتجه إلى إزالة العوائق القانونية التي تقلص قدرتها حتى الآن على مصادرة الأراضي الفلسطينية الخاصة بشكل واسع، إذ أعلنت وزيرة القضاء، إياليت شاكيد، عزمها على نقل التقاضي بشأن مصادرة الأراضي الفلسطينية من المحكمة العليا إلى المحاكم المحلية، وهذا ما يمثل وصفة لتسهيل وتسريع مخططات المصادرة.
ومما قلص هامش المناورة أمام قيادة السلطة حقيقة أن الإدارة الأميركية لم تعد تكتفي بتبني مواقف حكومة بنيامين نتنياهو، بل إنها تتجه حالياً وبقوة لممارسة الضغوط على السلطة الفلسطينية للتعايش مع هذه المواقف. فقد هدد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بوقف تحويل المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة للسلطة الفلسطينية ولمؤسسات دولية تقدم المساعدات للفلسطينيين. وفي حال طبق ترامب تهديده بوقف المساعدات المالية، فإن هذه الخطوة قد تفضي إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية في الضفة الغربية، وهو ما قد يسمح بتوفر بيئة اجتماعية تسهل انفجار الأوضاع الأمنية رداً على إجراءات الاحتلال. وفي ظل مظاهر الشراكة الإسرائيلية الأميركية الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية، فإنه لم يعد بإمكان قيادة السلطة مواصلة الحديث عن الالتزام بالتسوية السياسية للصراع، شرط ألا تكون إدارة ترامب وسيطاً فيها، إذ إن واشنطن وتل أبيب لن تتعاونا مع تحرك يمكن أن تقدم عليه أي من القوى العالمية لمحاولة إحياء جهود التسوية. من هنا، فإن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس يدرك أنه بات مطالباً بتقديم ردود مغايرة على التحدي الكبير الذي باتت تشكله الشراكة بين إدارة ترامب وحكومة نتنياهو. من هنا، فقد تعاظمت الدعوات حتى داخل الأوساط القيادية لحركة "فتح" بعدم الاكتفاء بالتهديدات التي يطلقها عباس بالانضمام إلى هذه المنظمة الدولية أو تلك، بل يتوجب أن يتم اتخاذ قرارات مفصلية بشأن مستقبل العلاقة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل.
وكما يقول عضو المجلس الثوري لحركة "فتح"، محمد الحوراني، فإن الاجتماع الطارئ الذي سيعقده المجلس المركزي الفلسطيني منتصف يناير/كانون الثاني الحالي يجب أن يتخذ قرارات بشأن "وظيفة السلطة"، وضمن ذلك وقف التعاون الأمني مع إسرائيل. وعلى الرغم من تعاظم الدعوات في الساحة الفلسطينية بوقف التعاون الأمني، ومع أن المجلس المركزي في اجتماعه الأخير قد أوصى قيادة السلطة بوقفه، إلا أن فرص أن تستجيب هذه القيادة لهذه المطالبة متدنية. فكل المؤشرات تدلل حتى الآن على أن عباس غير معني بتحطيم قواعد العلاقة الحالية مع إسرائيل، خصوصاً وأن وقف التعاون الأمني يعني إفساح المجال أمام الفلسطينيين للتعبير عن احتجاجهم على القرارات الإسرائيلية والأميركية بشكل قد يفضي إلى إشعال الضفة الغربية، ويوفر بيئة لتعاظم عمليات المقاومة، بشقيها الفردي والتنظيمي.
وتدل تصريحات عباس وسلوكه منذ توليه مقاليد الأمور في العام 2005 أن آخر ما يعنيه هو السماح بتوفير بيئة تسمح باندلاع فعل مقاوم جماهيري شامل. وترجع حساسية عباس لتبعات اندلاع فعل مقاوم واسع بشكل خاص إلى إمكانية أن تقدم إسرائيل على إجراءات مباشرة ضد قيادة السلطة نفسها، تماماً كما فعلت ضد الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، الذي حاصرته بعد عامين من اندلاع انتفاضة الأقصى حتى توفي في العام 2004. من هنا، فإن هناك ما يدل على أن عباس سيحاول مرة أخرى شراء الوقت من خلال محاولة إقناع حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" بالمشاركة في اجتماعات المجلس المركزي، بحيث تضفي مشاركة الحركتين صدقية على القرارات التي ستصدر عن المجلس المركزي، والتي قد لا تمس بشكل جدي بالإطار العام للعلاقة بين تل أبيب والسلطة. لكن المشكلة التي يواجهها عباس تتمثل في أن مظاهر التغول الإسرائيلي، المدعوم أميركياً، باتت بلا سقف، بحيث أن مفاعيل هذا التغول ستواصل إحراج السلطة الفلسطينية وستضعف مكانتها داخلياً.