الهجوم على مخيم جنين... محاولة إسرائيلية لإعادة إنتاج ذهنية الجدار الحديدي

12 يوليو 2023
يعكس الهجوم على جنين عقلية الانتقام من المدنيين (ناصر اشتية/Getty)
+ الخط -

بعد مرور عدة أيام على هجوم قوات الجيش الإسرائيلي على مخيم جنين، في الشهر الحالي، والدمار الهائل الذي تركته في المخيم، بدأت تتضح صورة نتائج الهجوم، العسكرية والسياسية. ويبدو أن معاني وأهداف الهجوم السياسية كانت أهم وأوسع من الأهداف العسكرية المباشرة.

الجانب العسكري... ذهنية الانتقام والردع

يأتي الهجوم على مخيم جنين ضمن هوس إسرائيل بالحفاظ على قوة الردع تجاه الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، التي تآكلت وفق المنظور الإسرائيلي بعد تزايد العمليات الفلسطينية في الضفة الغربية في الأشهر الأخيرة، وباتت تهدد نظام الردع في جبهات أخرى، مثل جبهة جنوب لبنان.

كما يعكس الهجوم عقلية الانتقام والعقاب ضد المقاومة الفلسطينية، وضد السكان العزل. وهي ذات العقلية التي نفذتها إسرائيل بداية خمسينيات القرن الماضي، حين أقام الجيش الإسرائيلي وحدة خاصة (وحدة 101) بقيادة أرئيل شارون، وبعدها الوحدة 890 في فرقة المظليين، مهمتها تنفيذ عمليات انتقامية في عمق البلدات الفلسطينية خارج الحدود الإسرائيلية، بعد أن خرجت منها عمليات فدائية.

أوضح الهجوم على مخيم جنين استعمال الجيش الإسرائيلي مزيجاً من عقيدة الضاحية الجنوبية لبيروت - التي صاغها رئيس الأركان الأسبق غادي أيزنكوت بعد حرب لبنان الثانية عام 2006، وتهدف إلى إلحاق دمار بالغ في أي منطقة، بالمرافق العسكرية وفي البنى التحتية من ضمنها المدنية، في حال بادرت أي منظمة بالهجوم على إسرائيل-، ومن ذهنية الحملات الانتقامية التقليدية ومن ذهنية الجدار الحديدي.

أوضح العديد من المحللين العسكريين الإسرائيليين محدودية العملية العسكرية ضد جنين وكونها قصيرة المدى

وترمي إسرائيل من وراء ذلك إلى تدفيع منفذي الهجمات ثمنا بالغا، عن طريق رد عسكري غير مواز للفعل، ويفوقه حجماً بالدمار وقوة النار، حتى لو كانت نتائجه العسكرية المباشرة محدودة وقصيرة المدى. فالمهم من جهة إسرائيل هو كيّ وعي الفلسطينيين بعدم جدوى النضال، أو استعمال الأدوات العسكرية ضد إسرائيل، ولكي ترسل عبر مخيم جنين رسائل ردع للجبهات الأخرى.

أما من حيث النتائج العسكرية للهجوم على مخيم جنين، فقد أوضح العديد من المحللين العسكريين الإسرائيليين محدوديتها، وكونها قصيرة المدى، حتى لو قتلت إسرائيل عدداً من المقاومين ودمرت قسما كبيرا من المخيم. هذه النتائج لن تخلق واقعاً مغايراً تختفي فيه المقاومة الفلسطينية من مخيم جنين، ولن تغير من معادلات الصراع على المديين المتوسط والبعيد، بل ربما سيكون لها نتائج عكسية.

وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت، عبّر في تصريحات له، بعد إنهاء الهجوم على جنين، عن هذه الذهنية، موضحاً أن الأبعاد المعنوية ورسائل الردع أهم من النتائج العسكرية المباشرة للهجوم.

وقال: "لن يكون للإرهاب مكان يختبئ فيه. مثلما تصرفنا قبل شهرين في غزة، فقد عملنا ضد كل المنظمات الإرهابية في جنين وسنعرف كيف ننسخها (العملية العسكرية) في كل مكان آخر. نمد يد السلام والشراكة للجميع، ولكن من يحاولون إيذاء الأطفال ومواطني إسرائيل سيواجهون الجدار الحديدي للجيش الإسرائيلي ويتحملون مسؤولية أفعاله".

منذ عدة أشهر بات واضحاً أن المؤسسة الإسرائيلية ترى أن المخيم يتحول إلى مركز للمقاومة الفلسطينية، وخشيت من انتقال هذا النموذج إلى مناطق أخرى. وقد لمح محللون عسكريون وصناع القرار في إسرائيل إلى أن الجيش سيضطر للقيام بهجوم عسكري على المخيم للانتقام من المقاومين، ولترويع السكان بغية منعهم من احتضان المقاومة.

كما أوضحت التحليلات أن الهجوم على مخيم جنين والعمل العسكري ليس الحل للعمليات الفلسطينية، بغياب رؤية إسرائيلية سياسية لمستقبل الأراضي المحتلة.

حكومة بدون رؤية سياسية لمستقبل الأراضي المحتلة

يوضح الهجوم على مخيم جنين، بالإضافة الى الخطوات الإسرائيلية الأخرى في الضفة الغربية، أن إسرائيل ما زالت، وبعد مرور 56 عاما من الاحتلال، لا تملك تصوراً سياسياً واضحاً حول مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بالرغم من تركيبة الحكومة اليمينية المتطرفة وحدة تصريحات وزرائها.

وتستعمل الحكومة الحالية مزيجاً من المقاربات للتعامل مع الأراضي المحتلة ومع السلطة الفلسطينية، منها مقاربة "تقليص الصراع" الرامية إلى تخفيض حجم السيطرة على الفلسطينيين، والانسحاب المباشر من إدارة الحياة اليومية للسكان الفلسطينيين، والحفاظ على السلطة الفلسطينية على حافة الحياة بشكل اصطناعي ومنع انهيارها، بواسطة مساعدات وتسهيلات اقتصادية.

كما تستخدم الحكومة الحالية أجزاء من مقاربة الوزير بتسلئيل سموتريتش (حزب الصهيونية الدينية) لحسم الصراع عن طريق تكثيف الاستيطان وتوسيعه، وترهيب الفلسطينيين عن طريق إطلاق يد المستوطنين، والاستمرار بممارسات الانتقام من المقاومة ومن السكان بالأدوات العسكرية، من دون أن تحسم بشكل واضح خياراتها لمستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة.

في هذا السياق، كتب إيال زيسر، المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، ونائب رئيس جامعة تل أبيب، في صحيفة "يسرائيل هيوم" اليمينية، أخيراً، أن "تهديد الإرهاب سيستمر أيضاً بعد الحملة على جنين. ربما تتراجع حدته في المدى القصير، لكن الواضح أن هذه الحملة لن تقضي على الإرهاب".

وأضاف أن "العمليات العسكرية مثل مُسكن الأوجاع، أو الإسعافات الأولية، تخفف الحمى ومستوى الإرهاب لفترة، لكنها لا تتعامل مع السبب الجذري لمشكلة ذات طابع سياسي، وهو الغموض الذي تبثه إسرائيل حول مستقبل الأراضي المحتلة".

تعود إسرائيل لاستعمال ذات الأدوات مرة تلو الأخرى في محاولتها للقضاء على المقاومة الفلسطينية وفرض الأمر الواقع

وتابع زيسر: "صحيح أن هذا الغموض خدم إسرائيل على مر السنين، حيث سمح بإحكام قبضتها على الأرض دون امتعاض داخلي، أو إقليمي أو دولي جدي، لكن ربما حان الوقت للنظر في منطق الحفاظ على هذا الغموض، فقد أدرك العالم أن حل الدولتين لم يعد قائماً، وأن إسرائيل تسيطر على الأراضي الفلسطينية، ولربما يقبل الفلسطينيون هذا الواقع على مضض. بالتالي، من الممكن أن يكون الهدوء المرجو متعلقا بقرار إسرائيلي حول مستقبل الأراضي المحتلة، وليس بعمليات عسكرية إضافية، مهما كان نجاحها".

الهجوم على مخيم جنين، من منظور إسرائيلي، يمكن أن يساهم في تخفيف التوتر الأمني في حال نجح في الردع وخفض العمليات، ويعطي دفعة لتحسين مكانة السلطة، ويحقق هدوءاً سياسياً في التحالف الحكومي، ويقلل من حدة الاحتجاجات السياسية، ويرضي المستوطنين، من دون أن يؤدي إلى ضرر سياسي جدي، ودون ثمن عسكري مؤلم.

تنفس اصطناعي للسلطة الفلسطينية

في سياق موازنة إسرائيل بين عمليات الانتقام العسكرية، والحفاظ على السلطة الفلسطينية على قيد الحياة، عقدت الحكومة الإسرائيلية المصغرة اجتماعاً خاصاً يوم الأحد (الماضي) لنقاش مقترح رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، لـ"منع انهيار السلطة"، يشمل مساعدات مالية وتسهيلات اقتصادية للسلطة الفلسطينية، منها إقامة منطقة صناعية جديدة في ترقوميا بمنطقة الخليل، وضمان قروض، وتسوية ديون، وحسم على سعر الوقود ومدفوعات ضرائب مسبقة، والقصد أموال المقاصة الفلسطينية.

كما ناقش الكابينت تمديد ساعات عمل جسر اللنبي (معبر الكرامة - جسر الملك حسين)، وإعادة إعطاء تصاريح لكبار المسؤولين في السلطة، والتي سحبتها إسرائيل في يناير/كانون الثاني الماضي، رداً على تحرك فلسطين لدى محكمة العدل الدولية في لاهاي ضد الاحتلال وممارساته.

إلا أن الحكومة المصغرة لم تقر التسهيلات المالية والاقتصادية، ووافقت على مبدأ "منع انهيار السلطة"، وربط المساعدات بتراجع السلطة عن الدعاوى القانونية في المحاكم الدولية، والتحركات السياسية في المحافل الدولية، ووقف دفع مخصصات الأسرى وعائلات الشهداء، وتغيير مناهج التدريس "التحريضية". بمعنى محاولة إسرائيلية لتقييد خطوات وإمكانيات تصرف السلطة الفلسطينية أكثر فأكثر.

هذه الخطوات توضح أن إسرائيل تسيطر تقريباً بالكامل على مجريات الأمور والحياة اليومية في مناطق السلطة الفلسطينية، في الجوانب العسكرية والاقتصادية والمعيشية اليومي، وهي من يملك أدوات إدامة حياة السلطة الفلسطينية.

في المقابل، ومع كل هذه القوة والأدوات، تعود إسرائيل لاستعمال ذات الأدوات مرة تلو الأخرى في محاولتها للقضاء على المقاومة الفلسطينية وفرض الأمر الواقع. مزيد من القوة والانتقام، من دون أن تحسم خيارها السياسي حول مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وما زالت تعاني من نفس التناقضات التي واجهتها منذ احتلال الأراضي الفلسطينية عام 1967.

إسرائيل كمشروع استعماري استيطاني لم تَهزم ولم تُلغِ المشروع الوطني الفلسطيني، ومشروعها الاستعماري لم يكتمل، كما أنها لم تُهزَم. فهي ما زالت تعمل ضمن إطار الممكن سياسياً، داخلياً وإقليمياً ودولياً، خاصة بعد هيمنة اليمين المتطرف الديني على السياسة، ووفقاً لاحتياجات الأمن القومي.

فمن جهة لا تريد ضم الأراضي الفلسطينية مع السكان كون ذلك ينهي إسرائيل كدولة يهودية، فيما يؤدي الهوس الأمني والخوف من انتقام فلسطيني إلى استمرار السيطرة الأمنية الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية.

مهما كانت الحكومة الإسرائيلية متطرفة ومتدينة، إلا أن الظروف على أرض الواقع، وصمود الشعب الفلسطيني، كما كان حال مخيم جنين، أقوى من رغبات وزرائها والمؤسسة الإسرائيلية.

فبالرغم من ضعف السلطة الفلسطينية، واستمرار الانقسام، والعمليات العسكرية الإسرائيلية والخلل الكبير في موازين القوى، ما زالت إسرائيل لا تملك أدوات الحسم، وتخشى من توسع وازدياد المقاومة والعمليات الفلسطينية، وما زالت تحاول إعادة إنتاج عقلية الجدار الحديدي.

المساهمون