تواجه الولايات المتحدة، مجدداً، ما سمته "خرقاً استخبارياً ضخماً"، يعرّض قدراتها الاستخبارية وعلاقاتها مع الحلفاء، على حدّ سواء، للضرر البالغ. ومع نشر أكثر من مائة صفحة إلى حدّ الآن، من الوثائق المسرّبة للاستخبارات الأميركية، والتي تتضمن أيضاً إيجازات وتوجيهات عملياتية (للجيش الأوكراني)، تصطدم الإدارة الأميركية هذه المرة، بأكبر تحدّ في الحرب التي تتهم روسيا الولايات المتحدة بشنّها ضدّها بشكل غير مباشر، في أوكرانيا.
وقد تكون هذه الوثائق التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي الأسبوع الماضي، ويتواصل ظهور مزيد منها، والتي تشمل أيضاً معلومات أمنية مرتبطة بالصين والشرق الأوسط، الأكثر ضرراً لأميركا منذ وثائق "ويكيليس" الشهيرة، والأكثر صعوبة لجهة تحديد مصدرها، علماً أن لائحة "المسرّبين" المحتملين قد تطول، ما يجعل التحقيق معقداً. ورغم تسليط جزء من الوثائق المسربة الضوء على مكامن ضعف الجيش الروسي، إلا أن التسريب قد يعكس ضعف واشنطن المتزايد في مجال تجنب ومكافحة "الجرائم السيبرانية"، وخطر الحروب السيبرانية، في وقت أصبحت فيه التوترات مع خصومها أكثر ترابطاً وتعقيداً.
وأعلنت وزارة العدل الأميركية، أول من أمس السبت، فتحها تحقيقاً لمحاولة تحديد مصدر تسريب الوثائق السرّية المرتبطة خصوصاً بالغزو الروسي لأوكرانيا، ونُشرت الأسبوع الماضي على مواقع مثل "تويتر" و"تلغرام" وغيرها، فيما لا تزال وثائق جديدة تظهر. ويجري التحقيق بحسب متحدث باسم الوزارة، بتواصل مع وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، وفق ما أكد لوكالة "فرانس برس"، علماً أن البنتاغون قال أيضاً إنه يحقق في الأمر، وكذلك فعل مكتب التحقيقات الفيدرالي "أف بي آي".
أوضح صورة عن مجريات حرب أوكرانيا
ووفقاً للاستنتاجات الأولية، فإن التسريبات لا تشمل تقارير ووثائق متعلقة بحرب أوكرانيا فحسب، بل تحليلات حسّاسة جداً بشأن حلفاء أميركا، وتقدّم أوضح صورة حتى الآن عن مجريات الحرب منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022. وبحسب صحيفة "واشنطن بوست"، فإن الوثائق التي اطلعت عليها "تشمل تقريباً كل زاوية من أجهزة الاستخبارات الأميركية". وقالت الصحيفة إن "الوثائق تصف أنشطة الاستخبارات في وكالة الأمن القومي، وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه)، وكالة الاستخبارات التابعة لوزارة الدفاع، ووكالات إنفاذ القانون الأميركية، ومكتب الاستطلاع الوطني (إن آر أو)، وهو أكثر الوكالات سرّية داخل الحكومة، والمسؤول عن تركيب وعمل كوكبة من أقمار التجسس الأميركية.
وصفت الوثائق سيول بالمُحرجة بين سياستها وواشنطن
ونقلت "واشنطن بوست" عن مسؤولين أميركيين قولهم إن هذه الوثائق جرى تزوير بعضها، لكن معظمها أصلية وتتوافق مع تقارير لوكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) متداولة في البيت الأبيض والبنتاغون والخارجية. وأكد 3 مسؤولين أميركيين لوكالة "رويترز"، يوم الجمعة الماضي، أن "عناصر روسية أو داعمة لروسيا تقف على الأرجح خلف التسريبات". ولفت المسؤولون إلى أن الوثائق تمّ تزويرها أو تعديلها لخفض عدد قتلى من القوات الروسية. فقد ذكرت وثيقة مثلاً أن عدد قتلى القوات الروسية منذ بدء الغزو بين 16 ألفاً و17 ألفاً و500 قتيل، بينما تعتقد الولايات المتحدة أن هناك 200 ألف جندي روسي سقطوا بين قتيل وجريح). وأشار المسؤولون الثلاثة إلى أن تقييماتهم هذه غير رسمية، ومنفصلة على التحقيق في التسريب.
وعلى الرغم من محاولة كييف التقليل من خطر الوثائق، وتوجيه أصابع الاتهام مباشرة إلى الروس، إذ قال مستشار الرئيس الأوكراني ميخائيلو بودولياك، الجمعة، إن الوثائق تحتوي على كم كبير من "المعلومات الخيالية"، مضيفاً أن الأمر يشبه "عملية تضليل روسية لزرع الشكّ في الخطة الأوكرانية للهجوم المضاد"، إلا أن القلق أيضاً بدا واضحاً على قيادتها.
وأصدر مكتب الرئيس فولوديمير زيلينسكي، مساء الجمعة، بياناً حول لقاء جمعه في اليوم ذاته مع مسؤوليه العسكريين الكبار، قال إن "المشاركين ركّزوا على الإجراءات الواجب اتخاذها لتجنب تسريب المعلومات بما خصّ خطط قوات الدفاع الأوكرانية". وأكد مسؤول أوكراني كبير لـ"واشنطن بوست"، السبت، أن التسريبات أغضبت القيادة العسكرية والسياسية في كييف، معرباً عن قلقه من صدور تسريبات استخبارية جديدة قريباً جداً.
تسريبات مفيدة لموسكو
وبحسب تحليل وسائل إعلام أميركية، فقد تكون هذه التسريبات مفيدة لموسكو، حيث إنها تظهر مدى اختراق أجهزة الاستخبارات الأميركية لأجزاء معينة من الجهاز العسكري الروسي. وأكد مسؤولون أميركيون حاليون وسابقون، لصحيفة "نيويورك تايمز"، إنه من المبكر معرفة مدى الضرر، لكنه إذا تمكنت روسيا من تحديد كيفية جمع الولايات المتحدة لمعلوماتها، وقطع هذا الطريق عليها، فإن ذلك قد يكون له تأثير على أرض المعركة.
وتحتوي بعض الوثائق كذلك معلومات تتعلق بالمناقشات الداخلية للحكومات المتحالفة مع الولايات المتحدة. وعلى سبيل المثال، سلّطت إحدى الوثائق الضوء على مناقشات حكومية في كوريا الجنوبية حول إمكان إمداد أوكرانيا بقذائف مدفعية أميركية، وفقاً لـ"نيويورك تايمز".
وقالت الصحيفة إن سيول وافقت على بيع قذائف مدفعية لمساعدة واشنطن على تجديد مخزونها من الأسلحة، مصرّة على ضرورة أن يكون "المستخدم النهائي" هو الجيش الأميركي، لكن كبار المسؤولين في كوريا الجنوبية انتابهم القلق من أن تزود الولايات المتحدة أوكرانيا بها. وأكد مسؤول في القصر الرئاسي بكوريا الجنوبية، أمس، لـ"رويترز"، أن سيول تعتزم مناقشة واشنطن بشأن الوثائق المسّربة.
لكن الوثائق المسرّبة، المؤرخة من نهاية فبراير/شباط الماضي، إلى أوائل مارس/آذار الماضي، وبغض النظر عن مصدرها، "تؤكد المؤكد لمسؤولي الاستخبارات" بحسب الصحيفة، وهو أن الولايات المتحدة لديها قدرة فهم أوضح لعمليات الروس، مما لديها عن التخطيط الأوكراني.
وتظهر الوثائق عمق الاختراق الأميركي لوكالات الأمن والاستخبارات الروسية، ومدى قدرة واشنطن على تحذير كييف من الخطط الروسية وأن تقدم لها تقييماً عن قوة آلة الحرب الروسية. وتظهر الوثائق جيشاً روسياً يعاني في حربه على أوكرانيا، ومنظومة عسكرية موضع تشكيك بقوتها، وتتضمن تحذيرات يومية لوكالات الاستخبارات الأميركية حول مواقيت الضربات الروسية وحتى أهدافها المحدّدة، ما سمح للولايات المتحدة بتمرير معلومات حسّاسة ومهمة جداً للقوات الأوكرانية لتحمي نفسها. لكن التسريبات أظهرت أيضاً تقييماً أميركياً متواضعاً لقدرات الجيش الأوكراني، ومناقشة لتقدم الروس حول مدينة باخموت شرقي أوكرانيا، كما حدّدت وجود نقص أساسي في عتاد قوة الدفاع الجوية الأوكرانية.
نفوذ "فاغنر" يتخطى أوكرانيا
وفي مقابل فقدان القوات الروسية للزخم، بحسب أحد التقارير، فإن مجموعة من المقاتلين الروس "يقفون كاستثناء"، بحسب تعبير "نيويورك تايمز"، نقلاً عن أحد الوثائق المقربة، وهم مقاتلو شركة "فاغنر" للمرتزقة الروس. وقالت الوثيقة إن "نفوذ فاغنر يتخطى أوكرانيا"، وهي "تعمل بنشاط لضرب المصالح الأميركية في أفريقيا، واختبرت الوصول إلى هايتي "مباشرة تحت أنف الولايات المتحدة"، بعرض لمساعدة الحكومة هناك في القضاء على العصابات.
وبحسب وثيقة واحدة سرّية، فإن مبعوثين من "فاغنر" أجروا سرّاً في فبراير الماضي لقاءات مع "أتراك" في محاولة للحصول على أسلحة ومعدات لقتالهم في أوكرانيا. وأشار التقرير حول مناقشات "فاغنر" إلى أن دولة مالي في منطقة الساحل الأفريقي قد تكون الوجهة التي قد تستقبل شحنات الأسلحة من تركيا لـ"فاغنر"، والتي ستنقلها إلى أوكرانيا.
وتبدو هذه التسريبات من كل الزوايا مضرّة للولايات المتحدة ومجرى الحرب وحلفاء أميركا، حتى لو فضحت ضعف الجهاز العسكري والاستخباري الروسي ومدى اختراقه. ومن شأن التسريب، تعقيد العلاقات بين واشنطن وحلفائها، وإثارة الشكوك حول قدرتها على حفظ الأسرار.
وقال مسؤول استخباري غربي لـ"نيويورك تايمز"، إن التسريب "كان أليماً"، ملّمحاً إلى أن بإمكانه الإضرار بتشارك المعلومات. كما أن الوثائق بإمكانها الإضرار بالروابط الدبلوماسية، لأنها تظهر أن الولايات المتحدة لا تتجسّس فقط على أعدائها، بل على حلفائها أيضاً، وهو أمر بحسب الصحيفة يعرفه الحلفاء جيّداً، لكن نشره على وسائل التواصل وللجمهور دائماً ما يضرّ بالعلاقات.
ذكرت وثيقة أن الموساد حرّض وحثّ على تظاهرات إسرائيل
وبحسب مسؤول أميركي كبير تحدث لـ"نيويورك تايمز"، فإن ما يجعل الضرر من "الخرق الاستخباري الهائل"، أكبر، هو أن ملاحقة المصدر الأساسي للتسريب قد يكون صعباً، لأن مئات، بل آلاف المسؤولين في الجيش الأميركي، ومسؤولين آخرين في الحكومة الأميركية، يملكون التصريحات الأمنية اللازمة للوصول إلى مثل هذه المعلومات. وقال المسؤول إن البنتاغون أمر بإجراءات خلال الأيام القليلة الماضية، لتقليص والحدّ من توزيع المعلومات المصنّفة حسّاسة جداً.
وأكد مسؤول آخر في وزارة الدفاع الأميركية لـ"واشنطن بوست"، أن التسريب "أثار مستوى عالياً من الرعب لدى القيادة في البنتاغون". لكن مسؤولاً استخبارياً أوروبياً حذّر من أنه إذا ما قامت واشنطن بالحدّ من إمكانية وصول الحلفاء إلى تقاريرها الاستخبارية، فإن ذلك "قد يضعهم في الظلام"، بحسب تعبير الصحيفة، علماً أن بعض الوثائق المسرّبة حملت تصنيف "نو فورن"، أي لا يسمح بتشاركها مع غير الأميركيين.
انقلاب الموساد على "إصلاحات" نتنياهو
وتتخطى خطورة الوثائق حدود الحرب الدائرة في القارة الأوروبية، والأكبر منذ الحرب العالمية الثانية. إذ بينما تستعجل واشنطن تحديد مصدر التسريب، ذكرت "واشنطن بوست"، أمس، إن إدارة الرئيس جو بايدن وإسرائيل لا تزالان تلتزمان الصمت حول مضمون عدد من الوثائق المسرّبة، والذي يتحدث عن "انقلاب" لجهاز الموساد الإسرائيلي على "الإصلاحات" التي يقترحها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على النظام القضائي والتي أثارت موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات في إسرائيل.
وذكرت وثيقة مسرّبة أنه في الفترة الفاصلة بين مطلع فبراير الماضي ومنتصف الشهر ذاته، أيّدت قيادات كبيرة في جهاز الموساد، أن يقدم مسؤولون في الجهاز، و"مواطنون إسرائيليون" على التظاهر ضد مشروع نتنياهو لـ"إصلاح القضاء"، بما في ذلك إطلاق الموساد دعوات واضحة لإدانة الحكومة الإسرائيلية.
ويعد ذلك كشفاً مهماً، لأن جهاز الموساد مجال عمله خارج إسرائيل، وممنوع من التدخل في شؤون السياسة الخارجية الإسرائيلية، كما أن الكشف عن المعلومة عن طريق "تجسس أميركي"، من شأنه أن يشعل الأوضاع أكثر في وقت تواجه فيه إسرائيل اضطراباً داخلياً "تاريخياً" بحسب الصحيفة.
واعتبرت "واشنطن بوست" أن دور الولايات المتحدة في تسليط الضوء على قلق جهاز الموساد من مشروع نتنياهو، قد يواجه بنيران المحافظين في إسرائيل، والذين منهم من اتهم واشنطن بتأجيج الاحتجاجات بشكل سرّي. وكان نجل نتنياهو، يائير، قد اتهم وزارة الخارجية الأميركية الشهر الماضي بأنها تقف خلف الاحتجاجات "بهدف كما يظهر هو إتمام اتفاق مع الإيرانيين".
ونفى جهاز الموساد الإسرائيلي، أمس الأحد، صحة أي تسريب من هذا النوع، وبأن تكون قيادته قد شجعت عناصره والجمهور الإسرائيلي على التظاهر ضد "الإصلاحات" القضائية، واصفاً في بيان صدر عن مكتب نتنياهو باسم "الموساد" هذه التقارير بأنها "كاذبة وسخيفة تماماً".
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز، أسوشييتد برس)