مشكلة حرب اليمن أن عواقبها الوخيمة لا تقتصر على رقم معين من الضحايا أو مستوى تصنيف شبح المجاعة، وغيرها من العناوين التي تستثمرها أطراف الصراع والمنظمات الدولية للمتاجرة، ولكن في التشوهات العميقة التي ضربت شكل الدولة، وجعلت العصابات المنفلتة تتصدر المشهد، وتتحكم بمصير الملايين باعتبارها سلطات أمر واقع.
والمشكلة المزدوجة، أن العصابات والمليشيات الحاكمة شمالاً وجنوباً، والتي لا تفقه أبجديات العمل السياسي وقوانين الحرب، تعتقد أن السلاح الثقيل الذي بات في قبضتها قد منحها صفة دولة؛ تحاكم اليمنيين بشكل فوري وفق قوانين الغاب الخاصة بها، وترتكب أبشع جرائم الحرب غير المرئية، معتقدةً أنها قد حققت إنجازات أمنية.
الأسبوع الماضي، ارتكبت المليشيات التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي جريمة بشعة بحق شاب يمني كان في طريقه من مطار عدن إلى صنعاء. تم اختطاف الشاب عبد الملك السنباني من نقطة تفتيش في منطقة طور الباحة في محافظة لحج. وحتى لا يتم دفن الإنجاز أو سرقته، قام المجرمون بتوزيع بيان صحافي يعلنون فيه "القبض على حوثي وفي حوزته دولارات"، وتوثيق الجريمة بصورة مهينة للضحية وهو معصوب اليدين من الخلف في مؤخرة دورية عسكرية.
وبما أنّ التهمة العجيبة، وكل ما يدور في اليمن بالطبع، من شر بلية يدعو للضحك، وجد المجلس الانتقالي بعد ثلاثة أيام، أن جميع اليمنيين يدينون جريمة قتل الشاب على أيدي مليشياته، فتكرّم هو الآخر بإدانة الواقعة بأشد العبارات، في لهجة لا تستخدمها سوى مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة عند شعورها بالصدمة من سلوك متوحش.
الوعود التي أطلقها "الانتقالي" بالتحقيق في الواقعة أمر جيّد، حتى وإن كان هو الخصم والحكم، لكن كان الأوْلى بالمجلس، الذي يحاول إقناع الناس بأنه قد تحول إلى دولة وأنشأ من أجل ذلك دائرة مراسيم وشؤون خارجية، أن يتوقع صدمة كهذه طالما أنه دفع باللصوص وأرباب السوابق لقتل المسافرين.
الدولة هي اتباع قوانين تحفظ كرامة الناس والعابرين منها وإليها أياً كانت هوياتهم، وليس الدفع بعصابات إلى طرقات شاسعة من طور الباحة في لحج وصولاً إلى الشيخ سالم في أبين، كل إنجازاتها هي ابتزاز المسافرين وانتهاك حقوقهم.
تريد سلطات الأمر الواقع إقناع المجتمع الدولي بأنها مؤهلة لإدارة دولة عبر إرسال برقيات تهنئة بروتوكولية في الأعياد الوطنية فقط، لكنها تتصرف كعصابات مارقة مع اليمنيين. كيف يمكن الوثوق بجماعات كهذه أو الاقتناع بما تحمله من مشاريع تدميرية لليمن المحطم؟
دفع المجلس الانتقالي ومثله جماعة الحوثيين وفصائل موالية للقوات الحكومية أيضاً، بأسوأ النماذج إلى الطرقات. مراهقون لا علاقة لهم بالسلوك الشرطوي وحقوق الإنسان، ودائماً ما يفتتحون تحقيقاتهم مع المسافرين بأسئلة عنصرية وطائفية أو بإلقاء اتهامات بناء على الهوية الشخصية.
أصبح اليمن أرض الخوف ليس بسبب المعارك، ولكن جراء تفشي عصابات جعلت السفر بين المدن أشبه بمغامرة محفوفة بالمخاطر. نقاط تفتيش تفصل بينها أمتار قليلة، ولا علاقة لها بتثبيت الأمن والاستقرار كما يزعم أصحابها، بل ترتكب عندها انتهاكات متعددة الأشكال؛ بدءاً من ابتزاز التجار ونهب مساعدات الإغاثة الإنسانية، وصولاً إلى الاحتجاز التعسفي والإخفاء القسري والعنف القائم على النوع الاجتماعي، بما في ذلك العنف الجنسي.
لم يشهد التاريخ اليمني معاملة قاسية وغير إنسانية كهذه على الطرقات بين المدن، سوى في عصر المليشيات الحاكمة التي تمادت في انتهاكاتها، وصولاً إلى التعذيب والقتل بناءً على تُهم واهية. هناك مئات الوقائع والجرائم التي دُفنت وصمت ضحاياها أو ذووهم خشية من البطش. واليوم، لا يمكن للعصابات أن تبادر بمساءلة مرتكبي الانتهاكات وتحقيق حق الضحايا بالعدالة والتعويض، لكن العدالة ستأتي يوماً ما، وجائحة العصابات ستندحر.