أغلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صفحة الانتخابات بالاحتفاظ في كرسي الرئاسة، بعد حصوله على 52.2 في المائة من الأصوات في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي جرت أمس الأول الأحد، مقابل 47.8 في المائة من الأصوات لمنافسه مرشح المعارضة كمال كلجدار أوغلو.
كما نجح التحالف الجمهوري، الذي يضم حزب العدالة والتنمية وحلفاءه، في الحفاظ على الأغلبية البرلمانية بحصده 323 مقعداً من أصل 600. لكن انتصار أردوغان هذه المرة جاء أضعف من السنوات السابقة، إذ اضطر للمرة الأولى لخوض جولة ثانية، كما أنه خسر المدن الكبرى، وأبرزها إسطنبول وأنقرة وإزمير.
تحديات أمام أردوغان
وبعد حسمه الانتخابات، يواجه أردوغان جملة تحديات خلال ولايته الجديدة، يأتي على رأسها تحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي بعد التراجع الذي شهده في الأشهر الأخيرة من ولايته، وارتفاع نسبة التضخم وتراجع قيمة العملة المحلية.
يضاف إلى ذلك إعادة إعمار المناطق المنكوبة بفعل الزلزال الذي ضرب البلاد في 6 فبراير/شباط الماضي، وتعزيز الأمن والتعامل مع ملف اللاجئين والمهاجرين غير النظاميين، وهو الذي قدّم وعوداً بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم.
كما تنتظر أردوغان تحديات خارجية، ولا سيما استكمال مسار تسوية الخلافات مع الدول الإقليمية والعالم، الذي بدأه أردوغان قبل أكثر من عام بعد تنافس وصراعات مع العديد من دول المنطقة.
وفي كلمة ألقاها بعد الإعلان عن فوزه، أكد أردوغان أن حكومته ستسخّر كافة إمكاناتها في الفترة المقبلة لنهضة الاقتصاد وتأهيل مناطق الزلزال. وأضاف في خطاب في المجمع الرئاسي التركي في أنقرة أمام أنصاره، أن المسألة الأهم في الأيام المقبلة هي حل مشاكل زيادة الأسعار الناجمة عن التضخم. وبيّن أن هذه المسألة ليست بالأمر الصعب بالنسبة لحكومته، مستشهدا بخفض الفائدة إلى 4.6 في المائة والتضخم إلى 6.2 في المائة عندما كان رئيساً للوزراء.
أكد أردوغان أن حكومته ستسخّر كافة إمكاناتها في الفترة المقبلة لنهضة الاقتصاد وتأهيل مناطق الزلزال
ولفت إلى خفض الفائدة في الوقت الحالي إلى 8.5 في المائة، مؤكداً أن التضخم سيهبط بدوره. وأضاف: "سنواصل سياسة الاستقرار، والتخطيط لبناء اقتصاد إنتاجي يقوم على أساس الاستثمار وخلق فرص العمل".
وأوضح أن حكومته تعمل على تأسيس إدارة مالية "تحظى بالاحترام على الصعيد الدولي"، وتخطط لإنشاء اقتصاد إنتاجي "يركز على الاستثمار والتوظيف". وأردف: "تضميد جراح منكوبي زلزال 6 فبراير وإعادة بناء مدننا المدمرة ستكون في مقدمة أولوياتنا، وكذلك سنسخّر كل وقتنا وطاقتنا للعمل وإنجاز المشاريع وتقديم الخدمات". وحول نتائج الانتخابات، قال أردوغان: "لم يخسر أحد اليوم، فالفائز 85 مليون مواطن، حان الوقت لنجتمع ونتحد حول أهدافنا وأحلامنا الوطنية".
وعن "مكافحة الإرهاب"، أكد الرئيس التركي العزم على تعزيزها من أجل القضاء على التهديدات الأمنية في جنوب البلاد. وأشار إلى اعتزامه استخدام القنوات السياسية والدبلوماسية بفعالية أكبر وتوجيه التطورات الإقليمية بشكل صحيح واللجوء إلى أساليب متعددة بهدف مواصلة إبعاد التنظيمات الإرهابية عن حدود تركيا. وتطرق إلى مسألة عودة اللاجئين السوريين قائلاً: "وفّرنا الإمكانية لعودة نحو 600 ألف شخص إلى المناطق الآمنة في سورية حتى اليوم".
واستطرد: "سنضمن عودة مليون سوري إضافي في غضون سنوات قليلة من خلال مشروع سكني جديد ننفذه مع قطر". وبيّن أن العودة الطوعية لطالبي اللجوء هي جزء من سياسة حكومته بما يتوافق مع مطالب الشعب، مضيفاً: "من واجبنا تلبية هذه المطالب لمواطنينا بالطرق التي تليق ببلادنا وأمتنا".
تمسك بالسياسات السابقة؟
ومع تعهداته هذه، يرى مراقبون أن أردوغان سيواصل اعتماد الكثير من سياساته السابقة، إلا أن بعض الملفات ستشهد تغييرات، لا سيما الاقتصادي، في ظل توقعات بعودة مهندس السياسة الاقتصادية، وزير المالية السابق محمد شيمشك الذي يحظى باحترام كبير محلياً ودولياً، وكان يرافق أردوغان سابقاً في قيادة اقتصاد البلاد، قبيل عزوفه عن السياسة منذ نحو خمس سنوات.
وكان الملف الاقتصادي حاسماً في المدن الكبرى التي صوتت ضد أردوغان، على الرغم من الجهود التي بذلها لتحسين الرواتب، وتقديم زيادات كبيرة لجميع الموظفين والعاملين، ورفع الحد الأدنى للأجور، ومحاولة تخفيض نسب التضخم. ومع اقتراب الانتخابات البلدية بعد أقل من عام، يتطلع أردوغان لخطوات تؤدي لاستعادة المدن الكبرى وأبرزها أنقرة وإسطنبول.
أما قضية الأمن التي ترتبط بها مسألة اللجوء والهجرة غير النظامية في البلاد، فتُعتبر من التحديات الرئيسية أمام أردوغان، خصوصاً أنها كانت محوراً أساسياً في الوعود التي قدّمها أردوغان للجمهور، وشكّلت ورقة حاولت المعارضة الاستفادة منها.
كان الملف الاقتصادي حاسماً في المدن الكبرى التي صوتت ضد أردوغان
ومع استمرار الأزمات العسكرية والسياسية والاقتصادية في دول محيطة بتركيا، تتواصل الهجرات باتجاهها وهي المعبر باتجاه دول الاتحاد الأوروبي، خصوصاً من أفغانستان وسورية والعراق ودول وسط آسيا، وهي قضية مرتبطة بأمن الحدود والتعامل مع المهاجرين غير النظاميين.
وفي السياق، ستكون قضية اللاجئين السوريين في تركيا حاضرة أيضاً خلال الفترة المقبلة، في ظل حديث أردوغان عن خطط حكومية لإعادتهم بشكل طوعي وآمن، وسيكون عليه البدء بتنفيذ وعده هذا، وكذلك منع حصول موجات نزوح جديدة عبر تعزيز أمن الحدود وتشديد القبضة الأمنية عليها، خصوصاً حدود شرق البلاد الجبلية الوعرة.
أما العنوان الثالث المهم فإنه يتعلق بقضية الزلازل، بعد الزلزال الذي ضرب 11 ولاية في 6 فبراير، من بينها ولايات دُمرت مدنها بشكل شبه كامل، كولاية هاتاي، وادي يامان، وملاطية، جنوب البلاد. وتتطلب الفترة المقبلة مواصلة إزالة الأنقاض وهدم المباني المتضررة، وإعادة البناء في ظل وعود قدمها أردوغان لتسليم المنازل في فترة أقصاها عام.
هذه الوعود أدت إلى تصويت الناخبين في مناطق الكوارث بشكل مكثف لأردوغان خلال الجولتين، ليصبح أمام تحدٍ كبير خلال الفترة المقبلة، في ظل اتساع رقعة الكارثة وضرورة معالجتها سريعاً. يضاف إلى هذا العنوان الخطط الحكومية المتعلقة بالاستعداد للزلازل في تركيا، فالبلاد تقع في منطقة مليئة بخطوط الصدع، ويحذر خبراء من زلزال وشيك في السنوات المقبلة يضرب إسطنبول بقوة قد تصل إلى أكثر من 7 درجات.
وخلال فترة ما قبل الانتخابات، أطلق أردوغان خطة تتعلق بهدم المنازل غير المقاومة للزلازل وبناء منازل جديدة، وتقديم الحكومة دعماً لمن يُقدم على هذه الخطوة بدفع نصف تكاليف البناء، ودفع جزء من أجرة المنازل المؤقتة إلى حين انتهاء المشاريع، وتقديم النصف الآخر قروضا ميسرة. وخلال السنوات المقبلة ستعمل الحكومة على تطبيق هذه الخطة.
العلاقات الداخلية والخارجية
سياسياً، سيكون أردوغان أمام تحدي الحفاظ على وحدة مكونات التحالف الجمهوري الذي بات يضم 6 أحزاب، وضمان الانسجام في البرلمان، بالتوازي مع تشكيل الحكومة التي قد تشهد إيجاد وزارات جديدة للاهتمام بالآفات الطبيعية ومسألة الهجرة غير النظامية.
وعلى صعيد الملفات الخارجية، من الواضع أن سياسة التطبيع وتصفير المشاكل ستتواصل في مسعى من أردوغان لتأمين الاستقرار الخارجي وانعكاس ذلك على مواجهة التحديات الداخلية. ويتوقع مراقبون أن يواصل أردوغان أداء دور الوسيط بين روسيا والغرب.
وقال غالب دالاي من معهد "تشاتام هاوس" لوكالة "فرانس برس": "خمس سنوات جديدة في ظل حكم أردوغان تعني مزيداً من الموازنة السياسية بين روسيا والغرب". وأضاف "ستنخرط تركيا والغرب في تعاون براغماتي أينما أملت المصالح ذلك".
وباتت الدول الغربية ومنها الولايات المتحدة، أمام واقع التعامل مع أردوغان، وقد تصبح العلاقات أكثر دفئاً بالفترة المقبلة، بعد سنوات من الاضطراب، خصوصاً في ظل الترحيب من معظم الدول بفوز أردوغان. وتبادلت تركيا في الفترة السابقة رسائل مع اليونان أو الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وبدأت الأخيرة بتزويد تركيا قطعاً مرتبطة بمقاتلات أف 16، وكانت خطوة في إطار إبقاء قنوات التعاون مفتوحة بين الدولتين. وكذلك فيما يتعلق بالعلاقة مع الدول العربية وبالموقف من الحرب الروسية في أوكرانيا والسعي لتأسيس قنوات الحوار بين الطرفين وقيادة المفاوضات.
أولوية الاقتصاد والهجرة
وعن الملفات التي ستشغل الرئيس التركي في المرحلة المقبلة، قال الصحافي إبراهيم آباك، لـ"العربي الجديد"، إن "الاقتصاد والهجرة أبرز المحددات في الفترة المقبلة لسياسات أردوغان، وهي أكبر التحديات التي تواجه"، مضيفاً "في الفترة الأخيرة كانت هناك أيضاً أزمات متعلقة بالمهاجرين غير النظاميين من خلال قدوم الأفغان وقبلهم السوريين، وسعت المعارضة لتوظيف الملف بالحديث عن محاولات توطين".
ولفت إلى أنه "جرى الحديث عن برامج إنشاء المناطق الآمنة، وستتم إعادة الإعمار وإنجاز مشاريع متعلقة بهذا الصدد في الفترة المقبلة، وإعادة عدد كبير من اللاجئين"، متابعاً "خلال ستة أشهر أو خلال عام ستتم إعادة السوريين بطريقة مدروسة، وهي الأولوية التي تأتي بعد أولوية الاقتصاد، وسيتم العمل على تعزيز الأمن على الحدود".
وأكد أن "المسألة الاقتصادية مهمة جداً ومن الواضح أن هناك سياسات مقبلة تتعلق بالاقتصاد وتشكيل الحكومة والفريق الاقتصادي، ويتم طرح اسم محمد شيمشك بقوة، وهي قضية ملحّة". وفي السياسة الخارجية، قال "قد نشهد هدوءاً ولكن التركيز سيكون في العلاقات الدولية حيث ستشهد نشاطا مع بقية الدول بهذا الخصوص".
آباك: المعارضة ستراقب عمل أردوغان للطعن به خلال الفترة المقبلة وهي تحديات لن تكون سهلة
واعتبر آباك أن "الملف الثالث المهم هو إعادة إعمار المناطق المنكوبة، وأهالي هذه المناطق يعلقون آمالا كبيرة على الرئيس أردوغان، وتحدي إنجاز المشاريع هناك سيكون كبيراً"، متوقعاً أن المعارضة ستراقب هذه الملفات "للطعن بها خلال الفترة المقبلة وهي تحديات لن تكون سهلة أمام أردوغان".
من جهته، قال الكاتب إسماعيل جوكتان، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "الاقتصاد سيكون الشق الأول في أولويات حكومة أردوغان الجديدة، كما أن قضية اللاجئين ستكون ضمن هذه الأولوية"، مشيراً إلى أن "أردوغان بدأ بخطوات في هذا السياق قبل الانتخابات، والتقى وزير المالية السابق محمد شيمشك، وأيضا هناك خطوات من قبل الحكومة لإعادة ما يقرب من مليون لاجئ سوري إلى الشمال السوري".
وأضاف أن "مراقبين يشيرون إلى أن أردوغان وشيمشك اتفقا على استمرار المشاورات لكن بعد الانتخابات، وهناك احتمال لإعادة شيمشك إلى منصبه القديم، كما أن اردوغان شدد على أنه سيتعامل مع من يتسببون بزيادة الأسعار والغلاء في البلاد، لذلك يمكن أن نعتبر الاقتصاد من أهم أولويات اردوغان في عهده الجديد".
جوكتان: الولايات المتحدة وجبهة الغرب ستعيدان النظر في علاقاتهما مع أنقرة بعد فوز أردوغان
في السياسة الخارجية، رأى جوكتان أن "أردوغان يرغب باستمرار تعزيز علاقاته مع روسيا، بينما هناك شبه انقطاع مع الولايات المتحدة"، معرباً عن اعتقاده بأن "الولايات المتحدة وجبهة الغرب ستعيدان النظر في علاقاتهما مع أنقرة بعد فوز أردوغان، لأن إضعاف تركيا اقتصادياً سيكون خطراً بالنسبة للمنطقة في وقت تستمر محاولات روسيا والصين التوسعية". واعتبر أن "الغرب لن يسمح لموسكو وبكين أن تضما أنقرة إلى صفوفهما بشكل كامل".
وشدد على أن "الأزمة السورية ستكون أيضاً مادة مهمة في سياسة الخارجية التركية بعد الانتخابات، وهناك توقعات تشير إلى استمرار التطبيع مع دول المنطقة بما فيها نظام بشار الأسد، لكن وجود مليشيات حزب العمال الكردستاني بدعم من الولايات المتحدة، سيؤدي لاستمرار العقدة أمام التطبيع وتحسن الأوضاع بين تركيا وسورية".