- شباب يساريون تركيون عبروا الحدود إلى سوريا ومنها إلى معسكرات فلسطينية، حيث انضم ثلاثة منهم إلى حركة فتح في 1968، وقتل أحدهم، مصطفى تشيليك، مما جعله أول تركي يقتل في سبيل فلسطين.
- مجموعة من الشباب بقيادة دينيز غيزمش انضمت إلى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في 1969، متحملين مشاق الرحلة ومخاطر الاعتقال، مدفوعين بأيديولوجيا ثورية ضد الإمبريالية أكثر من الدوافع الدينية.
في السادس من يونيو/ حزيران عام 1967 أي بعد يوم واحد من العدوان الإسرائيلي على الضفة الغربية ومصر وسورية، والذي أدى في نهاية الحرب إلى احتلال الجولان السوري وسيناء المصرية وما تبقى من فلسطين، نشرت منظمة الشباب الثوري في تركيا بياناً أدانت فيه العدوان الصهيوني المدعوم إمبريالياً، وعبرت عن دعم الدول العربية في حربها مع إسرائيل التي وصفتها بأن "هذه الحرب هي حرب استقلال الدول العربية الفقيرة ضد المعتدي إسرائيل. إننا نرى أن الوصول إلى السلام يعتمد على حصول الشعب المظلوم على حقوقه في أقصر وقت ممكن. إن إطالة أمد هذه الحرب ليست في مصلحة دول الشرق الأوسط، بل هي في مصلحة الدول الإمبريالية التي تريد الهيمنة على موارد المنطقة النفطية، وبيع السلاح لكلا الطرفين المتحاربين. يجب ألا تُستخدم القواعد العسكرية الموجودة في تركيا، ضد الدول العربية".
جسد هذا البيان موقف معظم القوى اليسارية في تركيا من القضية الفلسطينية، هذه القوى التي دخلت في صدام دامٍ منذ نهاية الستينيات وخلال فترة السبعينيات مع قوى قومية ويمينية وصفت بأنها جزء أو مدعومة من السلطة الحاكمة التي كانت ضمن المعسكر الغربي في حينها.
لم يتوقف دعم القوى (الثورية) التركية للقضية الفلسطينية عند القول، بل قام شباب يساريون بالعبور من الحدود التركية في اتجاه سورية، ومن هناك كانوا ينتقلون إلى معسكرات الفصائل الفلسطينية المختلفة في الأردن ومن ثم في لبنان.
أول مواطن تركي يقتل في سبيل فلسطين
في 1 أكتوبر/ تشرين الأول 1968 خرج جلال أوزجان (20 عاماً) ومصطفى تشيليك (19 عاماً) وعبد القادر ياشار غون (21 عاماً) من مدينة غازي عنتاب تجاه دمشق. كان هدفهم في البداية هو التحدث مع السفارة السوفييتية في دمشق للحصول على فرصة دراسة السياسة في موسكو، ولكن لم يحصلوا على مبتغاهم وعوضا عن ذلك انضموا إلى حركة فتح. شرح جلال أوزجان ما حصل معهم قائلاً: "لم تسر الأمور في سفارة الاتحاد السوفييتي كما كنا نأمل. إلا أن الحكومة السورية احترمت تجربتنا وسمحت لنا بأن ننام في أحد مساجد دمشق. في أحد الأيام وبعدما لففنا السجائر في الفناء، لم نجد لدينا ما نشعل به السيجارة، فطلبنا من شخص كان يجلس أمامنا شيئا لنشعل به السيجارة، فأعطانا أعواد كبريت كتب عليها بالعربية. حاول هذا الشخص التحدث معنا، ولكن لم نستطع أن نفهم ماذا يريد أن يقول.. فطلبنا من أحد الأشخاص الذين يتقنون اللغتين العربية والتركية أن ينقل لنا ما يقول، وعندما سمعنا بأنه فلسطيني لمعت برأسنا فكرة لم تكن في الحسبان…سنذهب إلى فلسطين لكي نقاتل الإمبريالية في صفوف ياسر عرفات، وبالفعل تحركنا فوراً وبحثنا عن دليل سوري ليرشدنا إلى طريق فلسطين، وانطلقنا".
بعد تلقيهم تدريبات على مدار أربعة أشهر في أحد معسكرات حركة فتح انخرط الثلاثة في العمل العسكري. وفي 8 يونيو 1968 قتل مصطفى تشيليك الذي يعتبر أول مواطن تركي يقتل في صفوف "فتح" وهو يناضل من أجل القضية الفلسطينية.
لم تصدق والدة مصطفى خبر مقتل ولدها الذي تخرج في الثانوية التجارية في عنتاب واختفى بعدها لأشهر، لترى بعدها اسمه في الجرائد مستشهداً في سبيل النضال من أجل فلسطين. ذهب زوجها إلى دمشق والتقى زعيم "فتح" ياسر عرفات الذي عزاه باستشهاد ولده وخصص لكل من الأب والأم راتباً شهرياً.
من رحلة سياحية إلى فلسطين
في يونيو عام 1969 أخبر الشاب دينيز غيزميش عائلته بأنه ذاهب لرحلة تخييم مع أصدقائه. إلا أنه في الحقيقة كان ذاهباً برفقة جيهان ألبتكين وعمر أريم سركان وفاضل حسان وكويدول توران ويوسف كوبلي للقتال في صفوف الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. حاول الأصدقاء اليساريون، كما هو الحال مع جميع من ذهبوا، الاعتماد على جهودهم الشخصية في تجهيز أنفسهم، فقاموا بشراء أربع قطع سلاح وعشرات الكتب وانطلقوا بها في اتجاه سورية. تحدث تورهان فايز أوغلو عن رحلة هؤلاء الشباب في كتابه (جماعة دينيز وفلسطين) قائلاً على لسانهم:
"ركبنا السيارة إلى مكان على الحدود نعرف به بعض الأقارب. ثم ذهبنا في اتجاه حاجز الحدود ودفعنا عن كل شخص 10 ليرات تركية لكي نعبر. دخلنا الحدود السورية وبيدنا حقائب سفر ثقيلة جداً، بعد تجاوزنا الحدود جررنا الحقائب لمسافة 600 - 700 متر، ثم ركبنا سيارة زراعية نقلتنا عبر القرية في اتجاه ضفة نهر الفرات، حيث جاء قارب صغير ونقلنا إلى الضفة الثانية من النهر، ثم مشينا بضع دقائق قبل أن نصل إلى الشارع العام الذي يصل كلاً من حلب وحماة وحمص ودمشق. أشرنا لسيارة بالتوقف، وبالفعل توقفت ووضع السائق الحقائب في صندوق السيارة من دون أن يفتشها".
لكن على الطريق أوقفهم حاجز أمن للتفتيش ووجد الأسلحة واعتقلهم. في تلك اللحظة بدأ دينيز بترديد الشعارات والأناشيد الثورية. سجنوا في حلب أربعة أيام ثم تم تحويلهم إلى دمشق وسجنوا فيها 12 يوماً، وعندما أخبروا الأمن السوري بأنهم قادمون للانضمام إلى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، تم إطلاق سراحهم. بعدها ذهبوا إلى مقر المنظمة حيث حصلوا على أوراق عضوية فيها، وأعيدت لهم أسلحتهم وكتبهم المصادرة، ثم انتقلوا إلى عمّان.
عند وصولهم إلى عمّان أصر دينيز على مقابلة الأمين العام للجبهة الديمقراطية نايف حواتمة أولاً، وبعد انتظاره ثلاثة أيام قابله، واستمع حواتمة لهذا الشاب المتحمس وتفهمه واستوعبه، وبعد اللقاء انتقلوا إلى المخيم الذي يعج بالشباب القادم من بلدان العالم للانضمام إلى المقاومة الفلسطينية، حيث كان المخيم في وقتها مختبراً نظرياً وعملياً للنشاط الثوري. بعد تلقيهم التدريبات العسكرية اللازمة للمشاركة في الحرب عادوا إلى تركيا لينتظروا الحرب القادمة. لكن عندما وقعت معركة 1973 كان معظم هؤلاء الشباب في السجن أو أعدموا بسبب تأسيسهم قوة مسلحة بعد انقلاب 1971 وما لحقها من أحداث قمع، وأطلق هؤلاء الشباب على جناحهم المسلح (جيش ثوري) لإنشاء الجمهورية التي يحلمون بها داخل تركيا.
اتُّهِم المتطوعون الذين وصل عددهم إلى ثلاثة آلاف، وكان من بينهم متطوع تركي-يهودي اسمه سابتاي فارول، بالعمالة لجهة خارجية. ولم تكن الحساسية الرئيسية للنظام التركي حينها بسبب التطوع للقتال في فلسطين، بل كان الاتهام هو الانتساب لمجموعة يسارية والسعي لقلب نظام الحكم.
أما الذين بقوا منهم في لبنان فقد قتل العديد منهم في القصف على المخيمات في لبنان، واعتقل بعضهم مثل فائق بولوت الصحافي والكاتب التركي الذي انضم عام 1972 إلى المقاومة الفلسطينية في لبنان، وخلال عملية عسكرية للجيش الإسرائيلي اعتقل عام 1973 وحكم عليه بالسجن لمدة 7 سنوات.
فلسطين أقرب نقطة للنضال ضد الإمبريالية
لم يكن القتال في فلسطين بالنسبة إلى الشباب الثوري بدافع ديني بل كان الدافع أيديولوجياً، كما أن فلسطين لم تكن قضية مركزية بالنسبة إليهم، بل كانت مجرد ساحة من ساحات النضال ضد الإمبريالية. قال أوكتاي أتيمان، المنتسب لجماعة الثوريين والذي شارك بعملية خطف القنصل الإسرائيلي في إسطنبول عام 1971 وصديق دينيز غيزميش، عن سبب ذهاب الشباب الثوري اليساري في تلك الفترة إلى فلسطين:
"نحن من الاشتراكية الدولية، وجاهزون للذهاب إلى أي مكان فيه إمبريالية واحتلال وظلم وقمع. هذا ينطبق على كمبوديا وفيتنام وفلسطين وغيرها. نحن من جهة نذهب إلى هناك في سبيل القتال ضد الإمبريالية، ومن جهة أخرى نستفيد من التدريبات العسكرية التي تساعدنا على تحقيق الثورة الشعبية في بلدنا. أما الذين يسألون عن فلسطين تحديداً فجوابي لهم واضح، هي أقرب مكان للنضال وتلقي شبابنا التدريب العسكري الذي يتم في مخيمات سورية ولبنان والأردن".
كتب محمد أيرو أوغلو الذي كان أحد الثوريين الأتراك في كتابه المعنون "الرجل الذي نسي اسمه":
"قد يبدو الأمر غير مفهوم أو ربما مضحكاً بالنسبة إليكم، ولكن الحقيقة هي أننا نعشق هذا الكون، كنا نؤمن بأن البشر ليسوا كائناً بيولوجياً، بل هو كائن لديه مسؤوليات تجاه مفاهيم مجردة مثل الضحك والشمس والقمر والنضال وغيرها".
النضال ضد الإمبريالية
يعتبر دينيز غيزمش (1947-1972)، أشهر رموز اليسار التركي، وأحد مؤسسي جيش التحرير الشعبي التركي عام 1970، الذي لم يعش أكثر من سنتين.
تبنى دينيز الخط الماركسي اللينيني الماوي واشترك مع رفاقه بخطف عمال أميركيين في تركيا ودعا للكفاح المسلح ضد الحكومة.
اعتقلته السلطات التركية مع رفيقيه حسين أنان ويوسف أصلان وحاكمتهم بتهمة العمل على قلب نظام الحكم والعمالة لجهة خارجية، والمقصود هنا انضمامهم للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
خطف أعضاء بفصيل يساري آخر القنصل الإسرائيلي في إسطنبول للضغط على الحكومة ومنحوها مهلة ثلاثة أيام لإطلاق سراح دينيز ورفاقه، وهو ما لم يحصل، فقتلوا القنصل، وفي اليوم التالي نفذ حكم الإعدام بدينيز ورفيقيه أنان وأصلان.
كتب دينيز في مجلة اليسار التركية: "لا يمكن أن يكون الشباب خارج معركة تدور ضد الإمبريالية، مهمة الشباب الثوري هي النضال ضد الإمبريالية الأميركية بغض النظر عن عدد الذين نقاتلهم وقوتهم. الشاب الثوري هو الشباب الذي يمضي عمره في النضال وليس الشباب الذي يمضي وقته في الفراغ. تحيا الشعوب التي تحارب من أجل استقلالها! لتحيا تركيا المستقلة تماماً!".