برزت في المشهد السياسي في المغرب خلال عام 2022 إشارات متعددة تدلّ على توجه ومحاولة جديدة لإحياء حلم توحيد ولمّ شمل اليسار، الذي يوصف تاريخه بأنه تاريخ الانشقاقات لا الوحدة.
وحمل عام 2022 العديد من المبادرات الرامية للملمة الصفوف في مواجهة الانقسامات العميقة بين مكونات اليسار لتلعب دورها وتقوي مواقعها على الساحة السياسية في المغرب، كان من نتائجها نجاح حزبي "الطليعة الديمقراطي الاشتراكي"، و"المؤتمر الوطني الاتحادي"، وتيار "اليسار الوحدوي" المنشق عن الحزب الاشتراكي الموحد، فضلا عن مجموعة "البديل التقدمي"، وفعاليات يسارية أخرى، في تجاوز تشتت الحاضر ومعيقات الوحدة بالإعلان في 18 من ديسمبر/ كانون الأول الحالي، عن ميلاد حزب "فيدرالية اليسار الديمقراطي".
ورغم معارضة بعض فروع حزب "الطليعة الديمقراطي الاشتراكي" لخطوة الاندماج، إلا أن اللافت كان هو تأكيد الحزب الجديد في بيانه العام الذي أصدره المؤتمر الاندماجي، المنعقد تحت شعار "مسارات تتوحد ويسار يتجدد"، أن "فيدرالية اليسار الديمقراطي" تمثل "تعبيرا عن إرادات سياسية لمكوناته، بغاية إعادة بناء اليسار المغربي وتوحيده، لإعطاء نفس جديد للنضال الديمقراطي الجماهيري، وإحداث نقلة نوعية تمكن من النفاذ إلى عمق المجتمع، ليتحول إلى قوة مؤثرة فاعلة في مجريات الحياة السياسية، وقادرة على تغيير موازين القوى في أفق بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة. وقد تعزز هذا الحدث التاريخي الوحدوي بالانفتاح على مجموعات يسارية وفعاليات ديمقراطية، في إطار إعطاء مفهوم الوحدة عمقها المجتمعي ودلالاتها التكاملية".
واعتبر البيان العام للمؤتمر أن الاندماج "خطوة تنظيمية ونضالية فارقة على أساس القراءة النقدية للتجارب اليسارية والاشتراكية والتقدمية المختلفة وطنيا ودوليا، ذات البعد الوحدوي وما قدمته من دروس في التحامها بجماهير شعوبها، واحتضان المجتمعات لنضالها الوحدوي الديمقراطي، واستيعاب طبيعة التحولات الكونية، والمتغيرات الجيوستراتيجية والجيوسياسية، التي أمْلت ضرورة التفكير في تجديد أدوات النضال الاجتماعي والمجتمعي، وآليات الخطاب السياسي بما يساير العصر، والإيمان بالضرورة التاريخية لبناء يسار نقدي مجدد ومبتكر ومبدع، يرتكز على هويته الديمقراطية، والهوية الوطنية متعددة الأبعاد بعمقها الثقافي واللغوي والحضاري، قادرٍ على تخطي الأعطاب الذاتية والموضوعية المعوِّقة لمساره".
ولفت البيان العام إلى أن "حدث الاندماج، بأهدافه الرامية إلى إعادة بناء يسار يتجدد في دينامية مجتمعية، خطوة تاريخية لمد الجسور مع كل اليساريين وكافة الديمقراطيين، في تفاعل دائم مع مختلف التعبيرات الاحتجاجية لتستعيد السياسة نبلها، والعمل الحزبي جاذبيته، ومن أجل مغرب الديمقراطية والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية".
ولم تقتصر مبادرات توحيد ولم شمل اليسار المغربي، خلال عام 2022، على "فيدرالية اليسار الديمقراطي"، وإنما برزت أيضا دعوة قيادة حزب "التقدم والاشتراكية" المعارض في المغرب إلى تشكيل تحالف يضم قوى اليسار و"الحركة الاجتماعية المواطنة"، من أجل تحقيق "البديل الديمقراطي التقدمي".
وفي وقت يعاني فيه اليسار المغربي، منذ سنوات، من حالة التشظي والضعف، شددت قيادة "التقدم والاشتراكية"، خلال الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الحزب الحادي عشر، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، في بوزنيقة (جنوب العاصمة الرباط)، على أن هناك حاجة ملحة "إلى التفاف جديد للقوى الوطنية والديمقراطية، ومواصلةِ السعي نحو وحدة اليسار المستعصية"، مع ضرورة السعي أيضا نحو توسيع منطق ومفهوم التحالف، ليشمل "الحركة الاجتماعية المواطنة"، ذات المطالب الحقوقية والمساواتية والشبابية والمدنية والإيكولوجية والاجتماعية.
وترى قيادة "التقدم والاشتراكية " أن "البديل الديمقراطي التقدمي" لا يمكن أن يتحقق من دون "عمل وحدوي، ومن غير تحالفات بين كل القوى التي تتقاسم بعض أو معظم أو كل مضامينه"، لافتة إلى أنه "لكي ينجح الإصلاح، فلا بد له من فضاء ملائم تتفجر فيه الطاقات وتحدث فيه التعبئةُ المجتمعية، وتسود فيه الثقة والمشاركة الإيجابية. فالمجتمع الذي لا جَدل ديمقراطياً فيه، ولا نقاش عمومياً، هو مجتمع يسير نحو مخاطر المجهول".
وكانت قيادة "التقدم والاشتراكية" قد استبقت مبادرتها للم شمل القوى الديمقراطية واليسارية في تحالف استراتيجي بالإعلان عن الدخول في تنسيق سياسي مع "الحزب الاشتراكي الموحد" المعارض، في 27 سبتمبر/ أيلول الماضي، لإحداث "رجة سياسية" في البلاد، مع إبقاء الباب مفتوحا في وجه كل مكونات اليسار المغربي للالتحاق بالتنسيق.
غير أن الإعلان عن التنسيق بين "التقدم والاشتراكية" و"الحزب الاشتراكي الموحد" أثار أكثر من علامة استفهام حول مآل هذه المحاولة الجديدة لإحياء حلم توحيد اليسار المغربي في ظل وجود تجارب سابقة انتهت بالفشل.
حلم الوحدة
وترى الباحثة في العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط شريفة لموير أن اليسار المغربي يعيش تحت وطأة بلوغ حلم التوحيد الجامع لكل مكوناته، وهو الأمر الذي طال انتظاره وانعدمت معه آفاق تحقيقه.
وتقول لموير، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "ما نراه اليوم من تحالفات هي تحالفات مرحلية فقط، تعيد تكريس نسخ سابقة من محاولات لملمة شتات اليسار بالمغرب، وليست تحالفات ذات ثقل سياسي".
وتوضح أن تاريخ اليسار حافل بالانشقاقات التي شكلت بدورها عائقا أمام وحدته في وقت كان له ثقله، لافتة إلى أن "الحديث عن وحدة اليسار اليوم هو محاولة لاستقواء هذه الأحزاب اليسارية، خاصة بعد التراجع الذي عرفته نتائجها في الانتخابات الأخيرة في السابع من سبتمبر/ أيلول 2021، وهذا ما حتم ضرورة هذا التكتل والتحالف بين القوى اليسارية، خاصة أنه كانت هناك تجارب اندماج وتحالف، لكنها لم تتحرك من مكانها ولم تكن بذاك النجاح الذي سوق لها".
وتعتقد الباحثة المغربية أنه "آن الأوان للتخلي عن حلم توحيد القوى اليسارية بالمغرب، لا سيما أن التجربة أظهرت بما لا يدع مجالا للشك أن طموح التوحيد صعب التحقق، خاصة في ظل ما يعرفه المشهد الحزبي بالبلاد".
من جانبه، يرى أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة رشيد لزرق أن "المتغيرات السياسية المغربية جعلت من الصعب الحديث عن اليسار ككتلة منسجمة أو حتى كجبهة سياسية موحدة"، لافتا إلى أن "مستقبل اليسار المغربي يظل مرتبطا ببروز قيادات شابة متحررة من عقدة الماضي، وهوس الحاضر، متشبعة بالأمل والواقعية، ومرتبطة بقضايا الجماهير، قد تعيد لليسار الإشعاع، عبر إسقاط القيادات الشعبوية، وتطهير الفضاء الداخلي من الانتهازية، والتحرر من النزعة العائلة- قراطية، لضمان الانتقال الديمقراطي الداخلي لتلك الأحزاب".