يدلي المغاربة، اليوم الأربعاء، بأصواتهم في ثالث اقتراع عام يجري في البلاد منذ تبنّي دستور جديد صيف العام 2011 عقب الحراك الذي قادته حركة "20 فبراير"، النسخة المغربية من "الربيع العربي"، وذلك وسط ترقب لنتائج نزال انتخابي يضع مصير حزب "العدالة والتنمية"، الطامح إلى قيادة الحكومة للمرة الثالثة على التوالي، على المحك، خلال مواجهته ثلاثة أحزاب لها وزنها الانتخابي، هي "الأصالة والمعاصرة" و"التجمع الوطني للأحرار" و"الاستقلال".
وتتباين رهانات الأطراف المختلفة على هذا الاستحقاق، ففي حين تتخوّف الدولة من مقاطعة شعبية وتراجع نسبة المشاركة، بما قد يؤثر على مسار الإصلاحات الذي تسعى لاستكماله، فإن للأحزاب في المقابل حساباتها المختلفة، خصوصاً أن لاستحقاق اليوم أهمية قصوى بالنظر إلى أن نتائجه ستحدد طبيعة المشهد السياسي المغربي في المرحلة المقبلة، وطبيعة التحالفات المقبلة لقيادة الحكومة، وقبلها مصير محاولات أطراف في الدولة وفاعلين سياسيين إقفال قوس تجربة مشاركة الإسلاميين في السلطة، بإنهاء حلم "إخوان" سعد الدين العثماني بقيادة الحكومة للمرة الثالثة على التوالي، والدفع بهم إلى الذهاب طوعاً أو كرهاً إلى المعارضة.
ظروف مستجدة
تجري الانتخابات البرلمانية والجهوية والبلدية المتزامنة اليوم، في ظل سياق سياسي مختلف عما كان عليه خلال سابقاتها، أبرز سماته وضع اقتصادي واجتماعي صعب فرضه تفشي وباء كورونا في البلاد، واستحقاقات مستقبلية تخص على وجه الخصوص تطبيق النموذج التنموي الجديد الذي وضعته لجنة عيّنها العاهل المغربي الملك محمد السادس. ولئن كانت كل المؤشرات تشير إلى أن الانتخابات الحالية ستكون محطة بلا رهانات كبرى، إذ لا تأتي في سياق إصلاحات أو تحوّل ديمقراطي، إلا أنها تشكّل إحدى الآليات السياسية التي يستند إليها النظام لتكريس النموذج السياسي المغربي، الذي يقوم على الإصلاح في إطار الاستمرارية.
يحق لنحو 18 مليون مغربي الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات
كما يأتي هذا الاستحقاق في سياق دقيق وصعب يتسم بفقدان ثقة المواطن المغربي في العملية السياسية والانتخابية جراء واقع حزبي يتسم بتغليب المصالح الشخصية على المصلحة العامة، وعدم القدرة على القيام بالأدوار الدستورية المتمثلة في تأطير المواطنين وتكوينهم سياسياً، ما يجعل الناخب أمام واقع سياسي لا يغري للإقبال على صناديق الاقتراع. وتشكّل الانتخابات التشريعية والجهوية والبلدية محطة مهمة لحزب "العدالة والتنمية" الإسلامي، في ظل تحديات داخلية وخارجية كبيرة يعيشها، لاختبار شعبيته في ظل اعتماد نظام جديد، يتم بموجبه احتساب القاسم الانتخابي على أساس عدد المسجلين في القوائم الانتخابية العامة عوض المشاركين في العملية الانتخابية.
وإذا كانت رهانات الفاعلين السياسيين تختلف بحسب موقعهم السياسي وطموحاتهم، فإن القدرة على إقناع نحو 18 مليون مغربي بالتوجّه إلى مكاتب الاقتراع يبقى على رأس رهانات الدولة من أجل منح المؤسسات المنتخبة الوطنية والمحلية والمهنية، من مجالس جماعية ومجالس إقليمية ومجالس جهوية ومجلسي البرلمان (مجلس النواب ومجلس المستشارين)، منسوباً من الثقة داخل المجتمع، على اعتبار أن أي عزوف عن التوجّه إلى صناديق الاقتراع سيعيد إلى الأذهان سيناريو انتخابات 2007 من تدني نسبة المشاركة إلى 37 في المائة. وبحسب ما يقول مدير "مركز الرباط للدراسات السياسية والاستراتيجية" خالد الشرقاوي السموني، لـ"العربي الجديد"، فإن "أي عزوف عن التوجّه إلى صناديق الاقتراع قد يؤثر على مسار الإصلاحات السياسية التي تنتهجها الدولة".
وبينما يبقى سيناريو تراجع نسبة المشاركة حاضراً، تراهن الدولة على التغلب على العديد من التحديات التي يفرضها المشهد الحزبي المغربي، من خلال إيجاد نخب جديدة ذات كفاءة قادرة على تطبيق النموذج التنموي الجديد. وتأتي صعوبة هذا الرهان من كون تحققه يرتبط بمدى قدرة الأحزاب على تجديد النخب السياسية الحالية وحسم الصراع مع النخبة التقليدية التي تمسك، منذ سنوات، بكل الخيوط داخل الهيئات الحزبية، وهي النخبة التي تسعى إلى الحفاظ على مواقعها ومصالحها في مواجهة أي طموح في التجديد والتغيير. وإذا كان رهان الدولة لإيجاد نخب جديدة مرتبطاً بما قدمته الأحزاب المغربية من مرشحين، فإن ما كشفت عنه الترشيحات المقدمة خلال الاستحقاق الانتخابي هو أن رهان الكثير من الأحزاب هو الظفر بأكبر عدد من المقاعد بفضل سيطرة الأعيان (الوجهاء) على لوائح الترشيح في مختلف الدوائر الانتخابية، باستثناء مرشحي حزبي "العدالة والتنمية" و"التقدم والاشتراكية".
وشهدت الساعات التي سبقت إسدال الستار على الحملات الانتخابية، سباقاً محموماً بين الأحزاب السياسية لاستمالة كل طرف الناخبين إلى صفه، معتبرين أن نتائج الانتخابات ستكون مصيرية وتحدد مستقبل البلاد والمسار الذي ستسلكه وموقفها من القضايا الإقليمية والدولية. وتتسابق في هذه الانتخابات 1704 قوائم للوصول إلى مجلس النواب (الغرفة الأولى للبرلمان المغربي)، الذي يضم 395 مقعداً، في حين يصل عدد لوائح الترشيح المقدمة في الدوائر الانتخابية المحلية إلى 1472 لائحة تضم 5046 مرشحاً ومرشحة. أما في الدوائر الانتخابية الجهوية، فقد استقر عدد الترشيحات المقدمة على 1769 مرشحاً ومرشحة، أي بمعدل يقارب 20 ترشيحاً عن كل مقعد.
تراهن الدولة على التغلب على العديد من التحديات التي يفرضها المشهد الحزبي المغربي
وعرفت ترشيحات النساء لعضوية البلديات في الانتخابات الحالية ارتفاعاً ملحوظاً مقارنة مع آخر انتخابات في 2015، إذ وصلت إلى 47 ألفاً و60 ترشيحاً، بما يقارب 30 في المائة من العدد الإجمالي للترشيحات. في حين بلغ عدد ترشيحات النساء المسجلة لانتخابات مجلس النواب 2329 ترشيحاً، أي بنسبة تجاوزت الـ34 في المائة من العدد الإجمالي.
4 أحزاب تسعى للصدارة
لن يكون المشهد السياسي لما بعد محطة 8 سبتمبر/ أيلول مختلفاً كثيراً عن السابق إلا في تغيير ترتيب بعض الأحزاب. وتنحصر المنافسة بين أربعة أحزاب، هي: "العدالة والتنمية" (قائد الائتلاف الحكومي الحالي)، الذي يسعى لقيادة الحكومة المغربية للمرة الثالثة على التوالي، و"التجمع الوطني للأحرار" (ثاني أكبر حزب في الائتلاف الحكومي)، الذي يضع في أولوياته إزاحة الإسلاميين، وحزب "الأصالة والمعاصرة" (أكبر حزب معارض في المغرب)، وحزب الاستقلال (أعرق الأحزاب المغربية).
وفي ظل تراجع الوهج الانتخابي لحزب "العدالة والتنمية" جراء تحمّله مسؤولية إدارة الشأن الحكومي على امتداد السنوات العشر الماضية وبسبب ما عاشه من أزمة داخلية منذ عام 2017، وكذلك اعتماد قاسم انتخابي جديد على أساس عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية العامة عوض المشاركين، تبقى حظوظ الأحزاب الأربعة متقاربة.
تحدي المشاركة
سيكون 17 مليوناً و983 ألفاً و490 ناخباً مسجلاً في القوائم الانتخابية مدعوّين للإدلاء بأصواتهم في أكثر من 60 ألف مركز تصويت داخل البلاد، بزيادة نحو مليونين و280 ألف ناخب مسجّل في القوائم الانتخابية في الاستحقاق السابق. في هذا الوقت اختارت كل من جماعة "العدل والإحسان" (أكبر التنظيمات الإسلامية في المغرب غير المرخص لها من السلطات)، وحزب النهج الديمقراطي (اليساري)، الاستمرار في مقاطعة الانتخابات، إلى جانب قرارات فردية عبّرت عن مقاطعة الاستحقاق الانتخابي وأخرى اختارت "عدم المشاركة من دون دعوة إلى المقاطعة"، مثل جزء من القوى المدافعة عن الأمازيغية، بسبب عدم ملاءمة العرض السياسي لطموحاتها.
وإذ سارعت قيادات سياسية عشية الاقتراع إلى الدعوة للمشاركة بكثافة في الانتخابات، قال المصطفى براهمة، الكاتب الوطني لحزب "النهج الديمقراطي"، إن الانتخابات "لا رهان فيها على التغيير وتحقيق المكاسب والمطالب"، في حين أعلن عبد الواحد متوكل، رئيس الدائرة السياسية لجماعة "العدل والإحسان"، أنها تقاطع الانتخابات الحالية، "كما قاطعنا التي سبقتها؛ لأنها ليست انتخابات بالمعنى المتعارف عليه في الدول التي تحترم شعوبها". ولأول مرة تساهم جدولة المواعيد الانتخابية في تنظيم ثلاثة استحقاقات مختلفة في يوم واحد، في خطوة تهدف إلى ترشيد النفقات، وتعزيز المشاركة الانتخابية، وأيضاً الحد من الجمع بين المهام الانتدابية. وللمرة الأولى أيضاً يتم التصويت بمعزل عن يوم الجمعة، وذلك لتفادي كل ما هو مرتبط بالعطلة الأسبوعية، سعياً لرفع نسب المشاركة في الاستحقاق المنتظر. في حين تذهب بعض القراءات إلى ربط ذلك بغاية أعمق هي حرمان الأحزاب المحافظة والمستندة إلى الخطاب الديني، من استغلال يوم ذي دلالة دينية كبيرة لاستمالة الناخبين.
فرض تفشي كورونا سطوته على الحملات الانتخابية
وبخلاف الانتخابات السابقة، فرض تفشي فيروس كورونا الجديد في البلاد سطوته على الحملات الانتخابية، من خلال اشتراط السلطات العديد من الإجراءات الاحترازية خلال الحملة الانتخابية، ما اضطر العديد من الأحزاب المشاركة في الاستحقاق إلى الاستثمار في الحملات الرقمية، سواء بوسائلها الخاصة أو عبر اللجوء إلى خدمات شركات متخصصة، على الرغم من تأكيد بعض المراقبين أن مواقع التواصل الاجتماعي لا يمكن الرهان عليها بشكل كبير وتبقى وسيلة مكملة، لأن الأحزاب المغربية لا تزال تعتمد على تأثير الصورة (التلفزيون والملصق الدعائي)، والتواصل عن قرب بطرق الأبواب وأماكن العمل والشارع والمقاهي والأماكن العمومية.
رهانات متباينة
في غضون ذلك، تتباين انتظارات ورهانات الشارع المغربي والطبقة السياسية بخصوص اقتراع اليوم. ورأى محمد ملين، الموظف في القطاع العام، أن الانتخابات "مجرد حدث سياسي يهم في الحقيقة سياسيين يمتلكون أموالاً وثروات يريدون الدفاع عنها، ما يجعلني أتساءل عن جدوى الانتخابات وما تفرزه من مؤسسات إذا لم يكن المواطن محور اهتمامها ولم تلبِ مطالبه"، مضيفاً في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن على الأحزاب وقياداتها العمل على استعادة ثقة المواطن فيها قبل فوات الأوان. من جهته، علّق الطالب عبد اللطيف السعيدي بالقول لـ"العربي الجديد": "صحيح أن الوضع الحزبي لا يغري بالمشاركة في الانتخابات، لكن أخال أنه من العبث انتهاج سياسة المقعد الشاغر بمقاطعة الانتخابات، لأن ذلك يفسح الطريق أمام المفسدين"، مؤكداً ضرورة المشاركة حتى لا تتم مصادرة رأيه وترك المجال للغير ليقرر عنه.
ويتفق معه الأمين العام لحزب "الأصالة والمعاصرة" عبد اللطيف وهبي، الذي دعا في تصريح صحافي، من سماهم أنصار الديمقراطية، إلى المشاركة في الانتخابات المرتقبة اليوم، باعتبار هذه الأخيرة "الآلية الوحيدة المشروعة للوصول إلى سدة التدبير الحكومي، وامتلاك الإمكانيات لتحقيق التقدم الذي نأمله ويطمح إليه جميع المغاربة".
في المقابل، قال نائب الأمين العام لحزب "العدالة والتنمية" سليمان العمراني، في حديث مع "العربي الجديد"، إن رهان حزبه هو أن يتم تحصين الخيار الديمقراطي وتعزيز الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، على الرغم مما أصاب التشريع الانتخابي من نكسة باعتماد القاسم الانتخابي على أساس المسجلين، مؤكداً أن أهم رهان لحزبه في الانتخابات هو المشاركة الشعبية المكثفة وبوعي وذكاء للمرشح الأصلح لقيادة الشأن العام، وأن يكون الاقتراع حراً بعيداً عن سلطة المال والإغراءات والوعود.