استمع إلى الملخص
- **تحديات البرلمان الجديد وتحالفات مضادة لليسار**: البرلمان الفرنسي الجديد شهد تحالفاً يمينياً وسطياً لمنع اليسار من الفوز برئاسة البرلمان، مما يعكس استمرار النهج الماكروني في التحايل على إرادة الناخبين.
- **رهان ماكرون على انقسامات اليسار واستمرار الحكومة الحالية**: استغل ماكرون انقسامات اليسار لتعزيز موقفه، متجاهلاً هزيمته الانتخابية، ومن المتوقع أن تستمر حكومة أتال في تصريف الأعمال حتى بعد الألعاب الأولمبية.
عاشت فرنسا سياسياً، أول من أمس الخميس، فصلاً إضافياً من مسلسل انقلاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وعائلته السياسية على نتائج الانتخابات البرلمانية التي أفرزت في السابع من يوليو/ تموز الحالي أغلبية يسارية وأقلية يمينية ووسطية ويمينية متطرفة. نتيجة لم تُترجم سياسياً، إذ يحصل التفاف عليها منذ ذلك التاريخ من خلال عدم تسمية شخصية يسارية من التحالف الفائز (الجبهة الشعبية الجديدة)، لتأليف حكومة، كما تم التحالف قبل يومين ضد مرشح اليسار لرئاسة الجمعية الوطنية (الغرفة الأهم من البرلمان الفرنسي)، أندريه شاسيني (andré chassaigne)، وإبقاء الرئيسة الحالية يائيل برون ــ بيفيه (Yaël Braun-Pivet)، من حزب ماكرون (النهضة)، وكل ذلك بحجة أن فوز الجبهة اليسارية (182 من أصل 577)، كان نسبياً، أي بغالبية بسيطة لا مطلقة. ويأتي ذلك علماً أنه لا شيء في الدستور الفرنسي يشترط نوع الغالبية أكانت مطلقة أو نسبية في هذه الحالة، وكثيراً ما تم تكليف شخصيات من التحالف الفائز في انتخابات سابقة بغالبية بسيطة لتأليف حكومات، آخرها وزارات ماكرون الحالية المنبثقة من انتخابات 2022 والتي لم يفز فيها تحالفه سوى بـ250 نائباً، أي بغالبية بسيطة وبعيدة عن تلك المطلقة (289).
كأن تغييراً لم يحصل في البرلمان الفرنسي
إذاً، كأن شيئاً لم يحصل سياسياً في فرنسا. كأنّ الفترة الممتدة من التاسع من يونيو/ حزيران الماضي، يوم سارع ماكرون إلى حلّ البرلمان الفرنسي ودعا إلى انتخابات تشريعية مبكرة وحتى الآن، لم تشهد أي خضّة سياسية. كأنّ الانتخابات الأوروبية لم تحصل ولم تسفر عن صفعة بالغة القسوة لحزب النهضة الرئاسي والقوى الحليفة له، وكأن الناخبين لم يعربوا عن مدى سخطهم على سياسات هذا الرئيس باقتراعهم بكثافة لمرشحي حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف الفائز في تلك الانتخابات.
ظهر في انتخاب رئيس البرلمان تحالف يميني وسطي لمنع اليسار من الفوز بهذا المنصب
وكأنّ الانتخابات البرلمانية المبكرة أيضاً لم تحصل، ولا أسفرت عن إعادة نهوض واضحة لتحالف القوى اليسارية (الجبهة الشعبية الجديدة)، الذي حلّ في طليعة القوى السياسية وحاز على الحصة الأكبر من مقاعد الندوة النيابية، في حين خسر حزب النهضة وحلفاؤه أكثر من مائة مقعد نيابي وحلّوا في المرتبة الثانية بعد تحالف اليسار وقبل اليمين المتطرف. كأنّ هذه الانتخابات نفسها لم تسفر عن بروز صورة غير مسبوقة للبرلمان الفرنسي الذي بات موزعاً بين ثلاث كتل كبيرة، هي كتلة اليسار (182 نائباً)، والوسط الماكروني، "معاً من أجل الجمهورية" (163 نائباً)، واليمين المتطرف (143 نائباً)، فضلاً عن كتلة رابعة أصغر حجماً (حزب الجمهوريين اليميني مع 68 نائباً)، في بادرة أراد الناخبون الفرنسيون من خلالها تأكيد شجبهم لسياسة ماكرون ورفضهم لأسلوبه.
كأن الشعب الفرنسي لم يوجه، عبر هذه التطورات التي توالت على مدى بضعة أسابيع، أي رسالة واضحة حول رغبته في التغيير وحول شجبه لنهج الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي الذي يعتمده ماكرون وفي طليعته إصلاح نظام التقاعد الذي أدى إلى رفع عدد سنوات العمل من 60 إلى 64 عاماً.
قال الفرنسيون كلمتهم فضُرب بها عرض الحائط، وعاد الزمن بهم إلى ما قبل الانتخابات الأوروبية، ذلك أن الحكومة الفرنسية المستقيلة مستمرة في عملها وعلى رأسها غابرييل أتال، وسيبدأ البرلمان الفرنسي الجديد بمزاولة نشاطه وعلى رأسه يائيل برون – بيفيه، كما لو أن حزب النهضة لم يُهزم ولم يخسر غالبيته البرلمانية النسبية.
وظهر في انتخاب رئيس البرلمان الفرنسي الخميس الماضي، تحالف يميني ــ وسطي لمنع اليسار من الفوز بهذا المنصب، وذلك تطبيقاً لسلوك مستجدّ في السياسة الفرنسية يقوم على التحالف ضد اليسار، والتعامل معه كالتعامل مع اليمين المتطرف، وهو سلوك سياسي معروف في فرنسا بـvote de barrage، أي التصويت بشكل يكون الهدف هو منع وصول تيار سياسي معين أكثر منه إيصال تيار محدد. بدأت تلك النظرية باضطهاد حزب فرنسا غير الخاضعة (75 نائباً)، بحجة أنه "متطرف معادٍ لقيم الجمهورية"، وهو ما ينفيه الحزب طبعاً، ثم امتدّت على ما يبدو لتشمل كل اليسار، بدليل أن المرشح الأقوى لرئاسة البرلمان، والذي غلبته برون ــ بيفيه في النهاية، هو رئيس مجموعة الحزب الشيوعي في البرلمان الفرنسي أندريه شاسيني، والحزب الشيوعي لم يعد يُنظر إليه على أنه متطرف في فرنسا، وهو رمز لليسار الجمهوري.
وكان فوز برون – بيفيه بمنصبها مجدداً عسيراً واستدعى ثلاث دورات انتخابية شهدها البرلمان الفرنسي خلال جلسة استمرت أكثر من خمس ساعات، وفي النهاية تقدمت على الشيوعي شاسيني بـ13 صوتاً فقط، جُيّرت لها من قبل نواب حزب "الجمهوريين" اليميني (220 صوتاً مقابل 207). فوز تسنى لها إحرازه بتفعيل جبهة نيابية متضامنة في وجه منافسها الذي سُرق منه فوز كان متوقعاً، ومثّل ذلك دليلاً واضحاً على نهج التحايل على الشعب وعلى الناخبين الذي يتقنه ماكرون وأنصاره جيداً، وهو ما هيمن على عناوين الصحف الفرنسية الصادرة صباح أمس الجمعة.
عرقل تيار ماكرون وحلفاؤه وصول أندريه شاسيني من الحزب الشيوعي لرئاسة البرلمان عبر ما يعرف بتصويت vote de barrage
بوادر هذا النهج برزت عقب الدورة الثانية من الانتخابات المبكرة حين بادرت الجبهة اليسارية الفائزة، على الرغم من افتقارها لغالبية برلمانية مطلقة، إلى الإعلان عن استعدادها لتشكيل الحكومة الفرنسية الجديدة وباشرت بإجراء مشاورات بين مكوناتها للاتفاق على تسمية رئيس لهذه الحكومة. تجاهل ماكرون النتائج الانتخابية ولم يعر أي أذن صاغية لمطلب اليسار. أدار ظهره وتوجه إلى واشنطن للمشاركة في قمة دول حلف شمال الأطلسي، ولم يكترث للغليان في الوسط السياسي الذي فجع بما أظهرته هذه الانتخابات من انقلاب في العمق للخريطة السياسية للبلاد ومن امتعاض حيال نهجه وسياساته.
ومن واشنطن، حيث لم يفته تعثر المفاوضات داخل الصف اليساري حول الحكومة المقبلة، عمل على إلقاء بالون اختبار عبر رسالة وجهها إلى الفرنسيين وطالب فيها البرلمان الجديد بالعمل على إنشاء ائتلاف حكومي منفتح على جميع القوى السياسية باستثناء اليمين المتطرف واليسار المتطرف، أي حزب "فرنسا غير الخاضعة". على ضوء هذه الرسالة، وبدلاً من أن تكثف القوى اليسارية مشاوراتها وتنجز سريعاً اتفاقاً حول تسمية رئيس الحكومة الجديدة وبرنامجها، انهمكت بالتنديد بمناورة ماكرون وأدانتها كما لو أن الوقت يلعب لصالحها وليس لصالحه.
رهان متواصل على خلافات اليسار
المؤكد أن ماكرون استلهم من تجربة اليسار السابقة عام 2022 حين أنشئ تحالف "الاتحاد الجديد للقوى الشعبية والاشتراكية" nupes، بهدف تشكيل قوة معارضة فاعلة في وجه كتلة ماكرون البرلمانية، لكن سرعان ما انفرط عقده تحت وطأة خلافات داخلية وحساسيات شخصية، ليعيد تكرار المحاولة مع الجبهة الشعبية الجديدة في انتخابات 30 يونيو الماضي والسابع من يوليو الحالي.
استلهم ماكرون من تجربة انفراط عقد تحالف "نوبس" في 2022
ووسط المراوحة والجدل الذي ساد أوساط الجبهة الشعبية اليسارية، استرسل ماكرون ودعا خلال الاجتماع الأخير الذي عقدته الحكومة الفرنسية قبل تقديم استقالتها وتكليفها بالاستمرار في تصريف الأعمال، مسدّداً ضربة جديدة، إذ أكد أنه يتوجب على القوى البرلمانية الموالية له طرح تصور "ائتلاف حكومي واسع النطاق أو حكومة ميثاق تشريعي"، وذلك بينما تعجز أطراف الجبهة اليسارية عن الاتفاق على مرشح واحد لطرحه على الإليزيه ممثلاً عنها لتأليف حكومة جديدة. وطرفا الخلاف هما كما بات معروفاً حزب فرنسا غير الخاضعة والحزب الاشتراكي، اللذان تبادلا الفيتو على أسماء مرشحة طيلة الأسبوع الماضي، وسط استغلال سياسي من ماكرون لحالة الانقسام اليساري.
أظهرت برون – بيفيه خلال توليها رئاسة البرلمان على مدى العامين الماضيين تسلطاً منقطع النظير
المغزى الحقيقي للطرح الماكروني الأخير (ائتلاف حكومي واسع النطاق أو حكومة ميثاق تشريعي)، يقضي بالإمعان في تجاهل هزيمته وتجاهل فوز اليسار الانتخابي، وإيلاء كتلته النيابية التي باتت تقتصر على حوالي 143 نائباً من أصل 577 نائباً، مهمة النهوض في رسم معالم الحكومة الفرنسية المقبلة، مراهناً ضمناً على إمكان استمالة شخصيات يسارية للانضمام إلى هذه الحكومة.
في غياب أي تطور مفاجئ، من المرجح أن تستمر حكومة أتال في تصريف الأعمال لما بعد انتهاء الألعاب الأولمبية التي تستضيفها باريس ويجري افتتاحها في 26 من الشهر الحالي وتستمر حتى 11 أغسطس/ آب المقبل. في هذا الوقت، سيكون على اليسار أن يعمل على إضفاء أقصى قدر ممكن من الانسجام على كتلته البرلمانية (التي تضم فرنسا غير الخاضعة والحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي وحزب الخضر)، للتمكن من الوقوف في وجه برون – بيفيه التي أثبتت خلال توليها رئاسة البرلمان على مدى العامين الماضيين تسلطاً منقطع النظير وإجحافاً في إنزال العقوبات بأعضاء المجلس النيابي المعارضين للماكرونية. بدا ذلك جلياً لدى إقصائها اثنين من نواب "فرنسا غير الخاضعة" بسبب رفعهما العلم الفلسطيني داخل البرلمان في حين أنها أجازت لنفسها حبك العلم الإسرائيلي على سترتها تأييداً لإسرائيل.