قبل أن تهب رياح التغيير والربيع الديمقراطي في دول أوروبا الشرقية، كانت قد حطت في الجزائر. ففي الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 1988، كانت الجزائر على موعد مع محطة فاصلة في تاريخها السياسي، إذ شهدت حينها انتفاضة شعبية عارمة كانت حتى تلك الفترة إعلان تمرد شعبي على النظام السياسي بعد انتفاضة الربيع الأمازيغي في إبريل/نيسان 1980، والذي انحصر في منطقة القبائل، كانت الأوضاع الاقتصادية صعبة للغاية، وخزينة البلاد على شفا الإفلاس المالي بسب تراجع رهيب لأسعار النفط منذ عام 1986، إذ كانت عائداته تمثل وحدها الرافع الاقتصادي، بعد الإخفاق في خلق قطاعات اقتصادية منتجة أخرى.
دفعت هذه الظروف الجزائر إلى الاستدانة من الخارج، وسط تردٍّ كبير للأوضاع الاجتماعية. برزت مشاهد الطوابير الكبيرة أمام المحال التجارية ومراكز التموين الحكومية للحصول على السلع التموينية الضرورية كالسكر والقهوة والزيت، وارتفعت معدلات البطالة، وتعطلت آلة الإنتاج في البلاد بسبب عدم توفر المواد الأولية التي تستورد من الخارج نتيجة شح الموارد المالية، والنهب المنظم لمقدرات البلاد، مع انكشاف قضايا فساد مالي، منها قضية "طزطوزة" صديق نجل الرئيس الشاذلي بن جديد. كل هذه الظروف وغيرها وفرت كل أسباب الغضب الشعبي المتزايد، والاحتقان من تردي الأوضاع المعيشية للسكان.
كانت انتفاضة بنفس سياسي لافت يسعى للإطاحة بنظام الحزب الواحد الذي فرض على الجزائريين منذ الاسقلال عام 1962
لكن انتفاضة أكتوبر 1988 لم تكن انتفاضة خبز على أساس هذه الأوضاع ، فقد كانت انتفاضة بنفس سياسي لافت يسعى للإطاحة بنظام الحزب الواحد الذي فرض على الجزائريين منذ الاستقلال عام 1962. فإضافة إلى بروز حركة شعبية مطلبية تطالب بالحريات والديمقراطية والاعتراف بالهوية الأمازيغية منذ انتفاضة الربيع الأمازيغي قبل ثماني سنوات، كسر الجزائريون حاجز الخوف من التضييق الأمني، وتم إنشاء رابطة حقوق الإنسان، وحركة الصحافيين الأحرار، وازداد النشاط الطلابي المعارض للسلطة في الجامعات، وتمدد نشاط التيار الإسلامي برغم وجود عدد من قياداته في السجون، إضافة إلى نشاط رموز بارزة في المعارضة التاريخية في الخارج، ثم جاء إضراب عام لعمال أكبر مصنع للمركبات في العاصمة الجزائرية ليفجر الوضع. كلّ تلك العوامل وفّرت مناخًا سياسيًّا لتفجر انتفاضة أكتوبر، وإعلانها انتفاضةً ضد نظام الحزب الواحد ورموزه في تلك الفترة، والمطالبة بالديمقراطية والقبول بتعددية الآراء والأفكار والاتجاهات.
وبحسب الكثير من الشهادات، فإن مجموع هذه العوامل زادها عامل آخر، و هو انقسام المواقف والصراع الحاد داخل دواليب السلطة، بين تيار المحافظين الذي كان يسعى إلى الاستمرار في السلطة، وبين تيار الإصلاحيين من الجيل الجديد الذي كان يرى ضرورة طرح إصلاحات سياسية جديدة. وجاءت انتفاضة أكتوبر لتدفع وجهة نظر الإصلاحيين، فبعد أيام من الاحتجاجات، أعلن الرئيس الشاذلي بن جديد عن طرح دستور جديد للبلاد يتيح التعددية السياسية وحق إنشاء الأحزاب والجمعيات والنقابات والصحف. كان ذلك مكسبا ديمقراطيا كبيرا بالنسبة للجزائريين والقطاعات المناضلة من أجله خاصة.
وبقدر ما كانت انتفاضة أكتوبر مؤشرا على نضج سياسي للمجتمع الجزائري بعد ربع قرن من الاستقلال، فإنها كانت أيضا إيذانا ببروز لافت للتيار الإسلامي الذي دخل على خط الانتفاضة في الشارع. وكان قرار علي بلحاج، الرقم الثاني لاحقا في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، تنظيم مسيرة شعبية في خضم الأحداث، نقطة صدام مباشر مع الجيش الذي أطلق الرصاص على المتظاهرين، ما تسبب في مقتل عدد منهم.
في فبراير/شباط 1989، أقر الجزائريون دستورا جديدا، كانت السلطة قد صاغته بمفردها من دون أن تتيح الفرصة للتيارات والعائلات السياسية لإبداء رأيها، ما أسهم في إطلاق مسار ديمقراطي لم تكن تتوفر له أيضا البيئة والظروف المناسبة لإنجاحه. وبرغم إجراء الانتخابات البلدية كأول استحقاق تعددي في يونيو/حزيران 1990، والذي فازت فيه الجبهة الإسلامية للإنقاذ بشكل كاسح، فإن ذلك أشعل أضواء الخطر بالنسبة للسلطة وبعض الأطراف التقدمية، خاصة مع تطور الاستقطاب وحدوث مواجهة بين الأمن والإسلاميين خلال اعتصامهم الشهير في يونيو 1991، ثم فوز الجبهة بالدور الأول للانتخابات النيابية التي جرت في 26 ديسمبر/كانون الأول من نفس السنة، قبل أن يقدم الجيش على توقيف المسار الانتخابي في 12 يناير/كانون الثاني 1992، وتدخل البلاد في أتون عشرية الأزمة الأمنية التي ما زالت أثارها عالقة حتى الآن.
خلال كل ذلك ضاع الحلم الديمقراطي، وانكسر مسار التجربة التعددية، واستعادت السلطة قبضتها تحت مبررات الوضع الأمني، وتحولت التعددية السياسية إلى ديمقراطية الواجهة قدر ما تفي بالغرض لصالح السلطة، وتأجل الانتقال الديمقراطي ليجد الجزائريون أنفسهم مرة أخرى على موعد مع المطلب الديمقراطي في حراك فبراير/شباط 2019.