أثارت مسوّدة الدستور الجديد وتصريحات الرئيس التونسي قيس سعيّد جدلاً حزبياً وسياسياً لافتاً، تمحور حول مسار صياغته ومضامينه الخلافية التي أججت صراعات الهوية والتطبيع.
وقال قيس سعيّد، أمس الثلاثاء، إنه "لن يتم التنصيص على دولة دينها الإسلام في الدستور، بل سيتم الحديث عن أمة دينها الإسلام". وأضاف أنّ "الدولة ذات معنوية، كالشركة أو المؤسسة، والشركة لن تمرّ على الصراط، وبالتالي الحديث عن دولة دينها الإسلام لا يليق بدولة تسعى لتحقيق مقاصد الإسلام".
وبيّن الرئيس التونسي أنّ "الحديث عن الأمة مختلف، وهناك العديد من المغالطات التاريخية في الحديث عن الأمة، وأنه سيتم العمل في الدستور الجديد على تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية"، وأن "من أبرز ملامح الدستور الجديد وحدة الدولة، لأنّ ما حصل من 2014 هو تفكيك للدولة".
وأكد أنّ "الأهم ليس طبيعة النظام؛ رئاسي أو برلماني، بل المهم السيادة للشعب والبقية وظائف، وليست سلطة، ولذلك سيتم الفصل بين الوظائف وليس السلطة، لأنها للشعب". وتابع أنّ "أهم شيء تحقيق المطالب الاجتماعية والاقتصادية، بعيداً عن الصراع على الهوية".
واتهمت المعارضة سعيد بإعداده دستوراً على مقاسه لتمرير مشروعه الشخصي، وأن "الحوار الدائر منذ أسبوعين لا يتعدى كونه مسرحية صورية لمغالطة الرأي العام الدولي المطالب بدمقرطة حلول الخروج من الأزمة التي تمر بها البلاد، منذ 25 يوليو/تموز 2021، وفق مقاربة تشاركية بمساهمة الأحزاب والمنظمات والمجتمع الأهلي".
وتفاجأ التونسيون بعد إعلان عدد من المشاركين في الحوار عدم إطلاعهم على مسودة الدستور أصلاً، بينما ذهب بعضهم إلى أن النقاط الخلافية لم تحسم، كالتنصيص على مرجعية الإسلام في الدستور، ومسألة تجريم التطبيع، والفصل بين السلطة وأسس النظام السياسي.
وقال القيادي في تنفيذية حراك مواطنون ضد الانقلاب، زهير إسماعيل، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "دستور قيس سعيّد يُكتب في كنف السريّة وفي غُرف مغلقة، لا يُعرَف مْن كتبه ولا ما تضمّنه نصه، وهو ما يؤكد سخافة ما سمّي الحوار الوطني".
وأضاف إسماعيل أن "قول (رئيس لجنة صياغة الدستور) الصادق بلعيد بأن النسخة غير نهائية ولرئيس الجمهورية الكلمة النهائية فيها، يؤكد أنّ هذا الدستور لن يخرج عن الأمر الانقلابي 117 الذي استولى به قيس سعيّد على السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)"، مشيراً إلى أنه "بالدعوة إلى الاستفتاء على دستوره ينصّب نفسه سلطة تأسيسية بلا شرعية ولا مشروعية، إلا الانقلاب واستعمال أجهزة الدولة ومؤسساتها في خدمة نظام فردي دكتاتوري متخلف بلا نظير".
وشدد المتحدث ذاته على أن "النظام السياسي المزمع فرضه سيكون نظاماً رئاسوياً خاضعاً للرئيس ورغباته. ولا علاقة له بفكرة الجمهورية لا جديدة ولا قديمة، فمن أساسيات الجمهورية الفصل بين السلطات".
وحول توجه قيس سعيّد نحو تحويل السلطة إلى وظائف، قال إسماعيل: "جمع كل السلطات في يد رأس الدولة (...) هذا وحده مقدّمة لفوضى عارمة ولتدمير ما بقي من الدولة والمجتمع". واستخلص أن "ما يُرتكب في حق تونس ودولتها وشعبها جريمة يجب أن تتوقف. ويمثل الشارع الديمقراطي، ووجهه السياسي جبهة الخلاص، أهم شروط الخروج من هذه الأزمة المركبة".
القيادي في المكتب السياسي لحزب ائتلاف الكرامة، منذر بن عطية، ذهب في تعليقه لـ"العربي الجديد" إلى أنه "من الناحية الشكلية، فإن هذا الدستور غير شرعي، واتّبع مساراً لا شرعياً عنوانه الأبرز (الأمر الواقع) المفروض بقوة الدبابة وعصا البوليس. لذلك، مهما كانت نتيجة الاستفتاء، الذي ستشرف عليه هيئة انتخابات، لا شرعية هي أيضاً، فإن مصير هكذا دستور مزبلة التاريخ".
وتابع: "هذا الدستور لم يشارك في كتابته ممثلون عن الشعب التونسي، بل أشخاص بعينهم اختارهم الرئيس لولائهم ولتزلفهم له، وما يجمع "كتبة" الدستور إن صح التعبير، انتماؤهم إلى التيّار اليساري الفرنكفوني المعادي للهوية العربية الإسلامية شكلاً ومعنىً".
وشدد بن عطية على أن "كل الحديث تحول إلى إلغاء الإسلام كدين للدولة، في تأكيد مفضوح بأن هذه مهمتهم الأساسية، لتكون تونس الدولة العربية المسلمة سابقة وحقل تجارب لقوى الاستعمار"، وأن "إلغاء دين الدولة سيكون القنبلة الأولى التي ستعقبها قنبلة التطبيع". وأضاف أن التطبيع "معصية مُتستّر عليها وسيجهر بها الانقلابيون في الوقت المناسب".
وأوضح القيادي بائتلاف الكرامة أن "إلغاء دين الدولة سيكون القنبلة الأولى التي ستعقبها قنبلة التطبيع بلا شك، الصهيونية العالمية وأدواتها الداخلية، وبمجرد تمرير الفصل الأول الذي ينفي الإسلام عن الدولة التونسية، سيراهنون على إنهاك الشعب التونسي اقتصادياً واجتماعياً حتى يقبل التطبيع عن يد وهو صاغر".
القيادي في شورى حركة النهضة، محسن السوداني، قال لـ"لعربي الجديد" إن "استبعاد موضوع الهوية من الدستور التونسي سيمثل سابقة سياسية وأيديولوجية خطيرة، فمن غير المعقول أن يكون إقصاء طرف سياسي بعينه هو الخلفية التي تغذي صياغة دستور يُفترض فيه أن يكون متعالياً على هذه الحساسيات".
وأشار السوداني إلى أن "الهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي محسومة منذ عقود، وقد نص المؤسسون الأوائل للجمهورية على هذا المعنى، كما ظل ذلك الفصل ثابتاً، رغم ما أُدخِل على الدستور من تعديلات".
وتابع: "المجتمع التونسي شديد الحساسية تجاه المساس بهويته أو النيل منها"، وإن "إضمار التصدي لحركة النهضة كخلفية لدى الصادق بلعيد لصياغة الدستور يعبّر عن قصور نظر وحقد إيديولوجي. فمواجهة حركة النهضة لا تكون بصياغة نصوص إقصائية، سواء كانت في شكل دستور أو قوانين، وإنما تكون عبر صناديق الاقتراع والمقارعة بالحجة، وليس بقهر القوانين الجائرة".
وختم المتحدث ذاته بأن "هذه السياسة الإقصائية أثبتت فشلها مع بورقيبة وبن علي، وستفشل لا محالة مع قيس سعيّد. فضلاً عن أن موضوع الهوية لا يرتبط بحركة النهضة، بقدر ما هو قضية الشعب التونسي ككلّ".
سعيد يستقبل بودن
إلى ذلك، استقبل قيس سعيد، ظهر الأربعاء، رئيسة الحكومة نجلاء بودن، وبحثا "الاستعدادات للاستفتاء الدستوري، وعدداً من المواضيع ذات العلاقة بالوضع العام بالبلاد وسير عدد من المرافق العمومية".
وتناول اللقاء "الاستعدادات الجارية لتنظيم الاستفتاء الدستوري في الموعد المحدد له حتى يصدع الشعب بموقفه بكل حرية ويكون له القول الفصل بعيداً عن كل المحاولات اليائسة للمغالطة والتشويه وتزوير الحقائق، بل ولتزوير العقول، وهو أخطر أنواع التزوير على الإطلاق"، وفق بيان صادر عن رئاسة الجمهورية.