انفرجت سريعاً الأزمة السياسية والدبلوماسية الطارئة التي كانت استجدت على العلاقة بين الجزائر وباريس منذ السادس من فبراير/شباط الماضي، على خلفية ما اعتبرته الجزائر تدخلاً من قبل المصالح الفرنسية في تونس لترحيل الناشطة الجزائرية أميرة بوراوي إلى فرنسا بدلاً من الجزائر.
وكانت بوراوي، التي تحمل جواز سفر فرنسي، قد وصلت إلى تونس آتية من الجزائر بطريقة غير قانونية، عبر مسالك التهريب على الحدود البرية، لكونها ممنوعة من مغادرة البلاد، ومحكوماً عليها بالسجن في الجزائر.
تُفسر انفراجة الأزمة وقرار العودة إلى التفاهمات الموقعة في أغسطس 2022 الأهمية البالغة لهذه التفاهمات بالنسبة للبلدين
وبخلاف أزمة أكتوبر/ تشرين الأول 2021، التي اندلعت على خلفية أزمة التأشيرات ودامت ثلاثة أشهر ونصف الشهر، اقتصرت الأزمة بين الجزائر وفرنسا هذه المرة على 45 يوماً، في مؤشر إلى أنّ هناك حسابات ترتبط بملفات ثنائية أو تطورات إقليمية فرضت على الطرفين محاصرة الأزمة والاكتفاء بما تم من تداعيات.
كما تشير إلى أن هناك استحقاقات هامة في السياقات نفسها، استدعت العودة إلى خط العلاقة الجديد المؤسس على تفاهمات أغسطس/آب 2022، التي تمت خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر، وعرفت باسم "إعلان الجزائر لشراكة متجددة".
كما يظهر ذلك أن البلدين يكتسبان مع الوقت العوامل والكيفية المناسبة لتسيير الأزمة والعلاقة بينهما، من دون إحداث القطيعة التي تبدو مستحيلة الحدوث على محور الجزائر ــ باريس، لاعتبارات تاريخية وسياسية واجتماعية وأمنية أيضاً.
مبعوثون خاصون لتسوية الخلافات
وبينما كان بيان الرئاسة الجزائرية في 8 فبراير الماضي يتحدث عن "انتهاك للسيادة الوطنية"، ويُلوّح في تقرير لاحق، نشرته وكالة الأنباء الرسمية، إلى إمكانية "حدوث قطيعة وشيكة بين البلدين"، كانت الاتصالات قائمة بين الرئاسة في البلدين، عبر مبعوثين خاصين بصورة غير معلنة، لتسوية الخلافات.
وبحسب مصادر دبلوماسية جزائرية تحدثت مع "العربي الجديد"، فإنه "في ظروف الأزمات السياسية بين الجزائر وفرنسا، كانت هناك دائماً قنوات للاتصال وتقديم التوضيحات اللازمة وإزالة نقاط الخلاف".
وأوضحت أنه "في الأزمة الماضية (2021)، كانت هناك زيارة لوزير الخارجية في ذلك الحين جان إيف لودريان إلى الجزائر سمحت بتسوية الأزمة. وخلال الأزمة الحالية، اتخذ الاتصال قنوات أخرى، حيث قدمت فرنسا التوضيحات المطلوبة بالنسبة للجزائر في قضية أميرة بوراوي، قبل أن تُرتّب المكالمة الهاتفية" بين ماكرون والرئيس الجزائري عبد المجيد تبون.
تحديد أطراف فرنسية تحاول تعطيل العلاقة
وبحسب المصادر نفسها، فإن "الموقف الجزائري كان منذ البداية واضحاً ومباشراً، ويحدد الأطراف والمصالح الفرنسية التي تحاول تعطيل العلاقات الجديدة التي يؤسس لها تبون وماكرون، وهذا يعني أن الجزائر، مثل ما هي ملتزمة بالاتفاقات الموقعة في أغسطس 2022، تدفع الجانب الفرنسي إلى عدم السماح لأية جهة بتعطيل العمل الجديد الذي يجرى القيام به".
ويقصد بجهة التعطيل جهاز الاستخبارات الفرنسية، الذي كانت السلطات الجزائرية قد وجهت اتهامات صريحة ومباشرة له بتنفيذ خطة لإعطاب المسار الجديد للعلاقات بين البلدين.
واعتبرت الرئاسة الجزائرية، في فبراير الماضي، أنه "يوجد على مستوى المديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي خطة تقضي بتقويض العلاقات الجزائرية - الفرنسية، يجرى تنفيذها من قبل عملاء سريين ومخبرين، وبعض المسؤولين على مستوى المديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي ووزارة الخارجية الفرنسية". وحذرت حينها من أن مجموعات المصالح الفرنسية "على وشك بلوغ هدفها المتمثل في إحداث القطيعة في العلاقات الجزائرية - الفرنسية".
ثنائية مستمرة: أزمة وحل
وبرأي الباحث في مركز البحوث السياسية في باريس فيصل ازغدارن الذي تحدث مع "العربي الجديد"، فإنّ تحول الأزمة الجزائرية الفرنسية من مسار قطيعة وشيكة إلى انفراجة وتفاهم يأتي ضمن "غرابة الدبلوماسية التي تكمن في المصالح". وقرأ الأزمة وانفراجها داخل ما يصفه "الطبيعة الحقيقية للعلاقات الثنائية بين البلدين، والتي تتشكل من ثنائية مستمرة: أزمة وحل".
وباعتقاده، فإن ما ساعد هذه المرة على تحييد الأزمة في زمن أقل من الأزمة الماضية، هو وجود توافق بين موقف الرئاسة الجزائرية والرئاسة الفرنسية بشأن وجود أطراف تعمل على تعطيل ترتيب العلاقات على أسس جديدة.
عبد الوهاب يعقوبي: كلما كانت العلاقات في وضعها الطبيعي، وفرت ظروفاً أفضل لمعالجة القضايا والمشكلات
وبرأيه، فإن "الجزائر وجدت في التصريحات الأخيرة لماكرون أثناء لقاء في قصر الإليزيه حول الشراكة الأفريقية الفرنسية، حيث اتهم أطرافاً بعرقلة مساعيه للنهوض بالعلاقات الثنائية مع الجزائر، إسناداً لموقفها وإعطاء مصداقية للتحليل نفسه الذي عبرت عنه في بداية الأزمة. وهذا التوافق فرض تجاوز الأزمة أولاً، وتثبيت الزيارة المقررة لتبون إلى باريس في مايو/أيار المقبل، وبدء التحضير لها الذي يتطلب عودة السفير الجزائري إلى باريس، وسلسلة اتصالات لتحضير ملفات الزيارة".
أهمية التفاهمات بين فرنسا والجزائر
على صعيد آخر، تُفسر انفراجة الأزمة وقرار العودة إلى التفاهمات الموقعة في أغسطس 2022، خلال زيارة ماكرون للجزائر، الأهمية البالغة لهذه التفاهمات بالنسبة للبلدين.
وتخص التفاهمات مختلف القضايا الإنسانية كتسهيل تنقل الأفراد، والتاريخية لتشكيل لجنة مشتركة لكتابة التاريخ المشترك وحل قضايا الذاكرة، والاقتصادية من حيث تشجيع نقل التكنولوجيا وإسناد المؤسسات الناشئة. كما أن هناك تفاهمات أمنية تتضمن عقد اجتماع أمني موسع كل سنة، إضافة إلى جملة من الملفات الإقليمية التي تعني الجزائر وباريس، وتفرض معالجتها إعادة قنوات الاتصال الدبلوماسي إلى مستوياتها الطبيعية، كملف منطقة الساحل الذي يعني البلدين بشكل مباشر.
يشار إلى أن باريس لا تجد حلولاً لأزمتها في الساحل وضمان انسحابها الآمن من المنطقة من دون التعاون مع الجزائر، التي تحاول في المقابل استغلال الأزمة القائمة بين باريس والرباط لتحقيق اختراق في الموقف الفرنسي الغامض من قضية النزاع في منطقة الصحراء، إضافة إلى مزيد من التفاهم في الملف الليبي لإسناد مسار الانتخابات.
كما ستسمح العودة إلى نسق العلاقات الطبيعية بين البلدين للجزائر بإجراء نقاشات مع الجانب الفرنسي حول الأزمة السياسية والاقتصادية في تونس، وآليات مساعدة تونس للخروج من أزمتها، خاصة ما يتعلق بفك عقدة القرض المالي لصندوق النقد الدولي. لكن أكثر الأسئلة التي تُطرح في سياق الأزمات المتتالية بين الجزائر وباريس مرتبطة بالعوامل الممكنة التي تمنع تكرار الأزمات مجدداً وتُثبت أكثر خط العلاقة الجديد بين البلدين.
وبرأي النائب في البرلمان الجزائري وممثل الجالية في فرنسا عبد الوهاب يعقوبي، فإنه "كلما كانت العلاقات بين البلدين في وضعها الطبيعي، وفر ذلك ظروفاً أفضل لمعالجة القضايا والمشكلات".
وأضاف في حديث مع "العربي الجديد": "أفترض أن الزيارة المقبلة لتبون إلى باريس في مايو المقبل ستلعب دوراً كبيراً في توضيح هذه المسألة، وستكشف إلى أي مدى يمكن فعلاً وضع التفاهمات المتفق عليها قيد التنفيذ، ومدى صمودها أمام استحقاقات ومصالح كل طرف".