توالت ردود الفعل الليبية على قرار مجلس النواب تكليف وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا رئاسة الحكومة الجديدة وتشكيلها، لكن اللافت فيها ذهاب البعض لتأييد قرار مجلس النواب والترحيب بباشاغا، ورفض عبد الحميد الدبيبة، وهو رأي لم يكن بارزاً في اليوم الأول والثاني من قرار مجلس النواب. فيما اتجهت آراء المؤيد منها للدبيبة، لتأخذ طابعاً عسكرياً، وهي مؤشرات تذهب بالمشهد الليبي إلى المزيد من الغموض، وضبابية الأفق السياسي القريب.
ومساء الخميس الماضي، ويومي الجمعة والسبت، بدت ردود الأفعال تميل لمصلحة الدبيبة، فقد عبّر أعيان من فزان، جنوبيّ البلاد، وعدد من ممثلي المكونات الاجتماعية والعسكرية والمدنية والسياسية بمدينة مصراتة، وعدد من أعيان وحكماء ومكونات مدن الساحل الغربي، عن رفضهم لقرار مجلس النواب تكليف رئيس جديد للحكومة، وتضمين التعديل الدستوري في الإعلان الدستوري الذي يؤجل الانتخابات 14 شهراً مقبلاً، معبّرين عن تأييدهم لبقاء حكومة الوحدة الوطنية، وضرورة تنفيذ خريطة الطريق لإنجاز الانتخابات في أقرب وقت.
لكن منذ مساء الأمس ظهرت في المشهد الليبي الغائم بيانات أخرى تعلن تأييدها لتكليف باشاغا رئيساً للحكومة، فقد أصدر عدد آخر من قيادات وحكماء وأعيان ومثقفي مصراتة، ومؤسسات المجتمع المدني فيها، بياناً، مساء الأمس، داعماً لاختيار مجلس النواب باشاغا رئيساً للحكومة، وتأييدهم "المطلق لكل من مجلسي النواب والدولة وترسيمهما لخريطة سياسية توافقية دستورية انتخابية متكاملة، تقطع الطريق أمام التدخلات الأجنبية والمماحكات الداخلية والاصطفافات النفعية".
وبالتزامن أيضاً، أصدر عدد من مؤسسات المجتمع المدني في المنطقة الجنوبية، بياناً ليل أمس، للترحيب بقرار مجلس النواب بتكليف باشاغا رئاسة حكومة جديدة، واصفين القرار بأنه "أول توافق ليبي ليبي"، وحثوا الدبيبة على ضرورة "التفاعل الإيجابي مع السلطة التنفيذية الجديدة فور الانتهاء من تشكيلها".
وفي مؤشر واضح على حالة الانقسام، أصدر قبائل النوايل، غربيّ البلاد، بياناً، مساء أمس، لتأييد قرار مجلس النواب لباشاغا، بل والتأكيد بعدم اعترافهم بـ"حكومة الوحدة الوطنية بدءاً من تاريخ اليوم"، حيث جاء البيان بعد ساعات من مغادرة الدبيبة مدينة رقدالين، التي تُعَدّ المركز الرئيس لقبائل النوايل، بعد مشاركته في الملتقى الأول للأعيان والحكماء في بلدية رقدالين، ألقى فيه خطاباً جدد فيه مهاجمته لمجلسي النواب والدولة، وأعلن فيه استعداده لإطلاق مبادرة سياسية لإنجاز الانتخابات تحت مسمى "خطة عودة الأمانة للشعب".
ويلاحظ أن ردود الفعل المؤيدة للدبيبة قد بدأت تأخذ طابعاً عسكرياً، فبعد أن انضم المكون العسكري إلى المكونات المؤيدة للدبيبة في مصراتة، خلال بيانها الجمعة الماضية الذي حمل مسمى "المكونات الاجتماعية والعسكرية والمدنية والسياسية" في مدينة مصراتة، أصدرت 65 كتيبة عسكرية وغرفة أمنية بياناً مشتركاً أمس السبت، أكدت فيه رفضها قراري مجلس النواب بشأن اختيار باشاغا لرئاسة حكومة جديدة، وتضمين التعديل الدستوري في الإعلان الدستوري، قبل أن يتجمع عدد من القادة العسكريين في طرابلس، ليل أمس، ليعلنوا، ضمن بيان حمل مسمى "قادة وكتائب وثوار القوى المساندة للجيش الليبي"، في ميدان الشهداء بالعاصمة، تأييدهم لحكومة الوحدة الوطنية، ورفضهم لما وصفوه بـ"حالة العبث التي يقوم بها البرلمان"، ورفضهم لتكليف باشاغا "تشكيل حكومة موازية".
شكل الانقسام
ورغم حدة الانقسام التي تظهرها البيانات المتوالية، وبدء ظهور ملامح اصطفافات جديدة، إلا أن الناشط السياسي الليبي، صالح المريمي، يرى أن كتلة مجلسي النواب والدولة والقوى التي يمثلها باشاغا انتهوا من ترتيب أنفسهم، بينما تأخر الدبيبة كثيراً ليبدأ الآن عملية بناء حلف في مسارين: الأول في اتجاه ضمان تأييد القوة العسكرية، والثاني سياسي من خلال إطلاق خطة للانتخابات تهدف إلى ضمان الحشد الشعبي.
ويلفت المريمي إلى أن الانقسام في الرأي يتركز في غرب البلاد وجنوبها، أما في شرق البلاد، فلا توجد أصوات معارضة لقرارات مجلس النواب، ما يعني تماسك الرأي فيه باتجاه دعم باشاغا. ويعتقد المريمي، خلال حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "رهان باشاغا والدبيبة يتركز على قوى غرب البلاد، فالجنوب لا يملك تأثيراً سياسياً ولا عسكرياً بشكل كبير، وغالباً ما يكون تبعاً لاتجاهات الرأي في الشرق الليبي".
ويوضح الناشط الليبي أن منحى خط تأييد الدبيبة بدأ يخرج من مصراتة ويتجه للتمركز في العاصمة طرابلس، وقال: "الدبيبة لا يُعرف له ثقل سياسي أو عسكري في مصراتة، فهو ليس من رموز الثورة ولم يدعم قواها السياسية والعسكرية في المراحل السابقة، كما هو الحال في شخصية باشاغا، الذي يمثل إضافة إلى ما سبق ثقلاً قبلياً أيضاً"، لافتاً إلى أن تعويل الدبيبة على طرابلس لن يتعدى التعويل على القوى العسكرية.
وأضاف المصدر ذاته أن "طبيعة تكوين العاصمة لا يتألف من قوى مجتمعية يمكن البناء عليها، بخلاف القوى المسلحة المنتشرة بكثافة"، والأخيرة بحسب المريمي لا يمكن الوثوق بها كثيراً، فمن المعروف أنها تغير ولاءها بشكل سريع، مشيراً إلى أن أقرب الأمثلة اصطفافها إلى جانب حكومة الوفاق عند دخولها لطرابلس عام 2016 ضد حكومة الإنقاذ الوطني التي قاتلت جنباً إلى جنب معها في معارك فجر ليبيا.
ولكل هذه العوامل يرجّح المريمي فشل مبادرة الدبيبة السياسية التي يستعد لإطلاقها يوم الخميس المقبل بشأن الانتخابات وقوانينها، وقال: "الخطة تحتاج دعماً سياسياً وشرعية وقوى مدنية لاحتضانها وإعطائها زخماً، وهو ما لا يتوافر عند الدبيبة".
وفيما لزم باشاغا الصمت منذ كلمته التي ألقاها في طرابلس، ليل الخميس، مطالباً فيها الدبيبة بالتزام الشكل الديمقراطي وتسليم السلطة، وتعهده بالعمل مع الجميع، كثف الدبيبة من ظهوره وخطاباته التي هاجم فيها مجلسَي النواب والدولة، لكنه في الأثناء دندن على عواطف الطرابلسيين عندما وصف دخول باشاغا لطرابلس بمحاولة تكرار دخول مسلح قاده حفتر في السابق.
صمت باشاغا يزيد من حجم الغموض
ووفقاً لقراءة الأكاديمي والباحث في الشأن السياسي الدوكالي الهاين، فإنه إذا لزم باشاغا الصمت، فإن ذلك سيزيد من حجم الغموض حول أهدافه وحقيقة مشروع الحلف الذي ربطه بمجلس النواب، خصوصاً أن مجلس النواب يقف غير بعيد عن سياسات حفتر ومشاريعه الطامحة إلى السيطرة والحكم، لكنه في ذات الوقت يرى أن اتجاه الدبيبة لعسكرة أنصاره سيحوّل وضعه إلى عامل حقيقي لعودة الانقسام الحكومي في البلاد، وهي الصورة التي ستسرع من تغير نظرة المجتمع الدولي لوجوده وبالتالي سرعة اتجاهه نحو السقوط، وفقاً لرأيه.
ويعتقد الهاين، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الإجماع السياسي من جانب مجلس الدولة ومجلس النواب على باشاغا يتجه إلى خلق تصور في أذهان الناس لتفضيل حالة الوفاق والتقارب بينهما على حالة الانقسام.
وقال في هذا السياق: "هذه ظروف ستساعد على منح الثقة لحكومته بشكل سريع دون حتى التدقيق في تشكيلها وتفرض نفسها على المجتمع الدولي والمحلي"، مشيراً إلى أن ذلك ستقابله تشكيلة حكومة الوحدة الوطنية المهزوزة حتى في سمعتها، خصوصاً أن ثلاثة من وزرائها قيد الحبس الاحتياطي للتحقيق معهم في شبه فساد واختلاسات مالية كبيرة.