بعد الرئيس السابق دونالد ترامب، حان دور خلفه جو بايدن ليواجه أول محاولة من الكونغرس الأميركي لعزله، بتحريض من النواب الجمهوريين، وتحديداً الجناح اليميني المتطرف، والذين يعدّون من أنصار ترامب. وعلى الرغم من أن محاولة عزل بايدن في الكونغرس لن تقود إلى شيء، بحسب الخبراء والمتابعين، إلا أن ذلك دفع السيناتورة الجمهورية، المعارضة لترامب، ليزا موركوفسكي، والتي كانت قد صوّتت لعزل الرئيس السابق مرتين، للقول إن "السقف المحدد لبدء إجراءات العزل ضد الرؤساء الأميركيين يهبط أكثر عاماً بعد عام"، وذلك فيما أصبح الديمقراطيون والجمهوريون يستسهلون هذا السلاح، كأداة للتشفي السياسي، أو للمنافسة الانتخابية، وهو ما ارتفعت حدّته في عهد ترامب.
وساهمت الترامبية في تغذية الجنوح في الكونغرس نحو إجراءات عزل الرؤساء، وهي موجة قد تزداد خلال السنوات المقبلة، فيما كان ترامب قد خضع لها، واليوم بايدن، وقبلهما مباشرة الرئيس الديمقراطي الأسبق بيل كلينتون، على خلفية علاقته بمونيكا لوينسكي، وقبل هؤلاء فقط الرئيس الراحل أندرو جونسون في عام 1868، من دون إدانة وعزل أي من الرؤساء السابقين المذكورين. وتأتي مساءلة بايدن، في وقت يشتد فيه الانقسام السياسي في الولايات المتحدة، ويواجه ترامب اتهامات قضائية، منها ما يتعلق بمحاولة قلب نتائج انتخابات الرئاسة عام 2020، قد تقود لإدانته وتلقي بظلالها على حملته للترشح أيضاً لولاية رئاسية جديدة. ويَتهِم ترامب الديمقراطيين، وبايدن خصوصاً، بتدبير هذه القضايا له كي لا يصل إلى ترشيح حزبه للرئاسة ومنافسة بايدن.
يحتاج عزل الرئيس الأميركي لتصويت ثلثي مجلس الشيوخ
ويواجه بايدن، اليوم، المسار نفسه، للمرة الأولى، بعدما أعلن رئيس مجلس النواب، الجمهوري كيفن مكارثي، أول من أمس الثلاثاء، أنه وجّه لجنة تابعة للمجلس بفتح تحقيق لمساءلة الرئيس بشأن الأعمال التجارية لعائلته، في إطلاق لإجراءات العزل، قبيل الانتخابات الرئاسية المقررة في خريف 2024، والتي ترشّح لها بايدن للفوز بولاية ثانية.
وجاء إعلان مكارثي بعد ضغوط متزايدة عليه من داخل المجلس، وتحديداً من قبل النواب الجمهوريين من الجناح المتشدد، أمثال النائبة مارجوري تايلور غرين، لاتخاذ إجراءات العزل، مع عودة دور انعقاد المجلس، أول من أمس، في مستهل أجندة الخريف. مع العلم أنه كان قد كرّر مراراً قبل فوزه بالمنصب، خلفاً للديمقراطية نانسي بيلوسي، بعد الانتخابات النصفية للكونغرس في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، أن المجلس الذي فاز فيه الجمهوريون بأغلبية ضئيلة بعد الانتخابات النصفية سيفتح مساءلة بهدف عزل بايدن.
ويخطط مكارثي، مع هذه العودة، لعقد اجتماعات سرّية للمشرعين، مرات عدة خلال الأسبوع الحالي، بما فيها اجتماع لمناقشة مساءلة بايدن. ويكافح رئيس مجلس النواب، أيضاً، لتمرير التشريع اللازم لتجنب إغلاق الحكومة الفيدرالية، وهو ما هدّد النواب المتطرفون في حزبه بعرقلته إذا لم يعلن إطلاق إجراءات العزل، إلى جانب تهديدهم بطلب سحب الثقة من مكارثي وإفقاده منصبه.
ويأتي إطلاق رئاسة مجلس النواب لإجراءات مساءلة بايدن بهدف عزله، فيما يحقق الجمهوريون في مجلس النواب منذ حوالي 9 أشهر في المعاملات التجارية لهانتر بايدن، نجل الرئيس بايدن، من دون أن يقدموا حتى الآن أي أدلة دامغة تربط الرئيس الأميركي بها. كما فتحت وزارة العدل تحقيقاً يتعلق بهانتر بايدن، الذي كان قد أقرّ بتهمة التهرب الضريبي وحيازة سلاح ناري حين كان مدمناً على المخدرات، وهو جزء من تهم فيدرالية موجهة إليه، فيما عيّن وزير العدل ميريك غارلاند في أغسطس/ آب الماضي، مدعياً عاماً مستقلاً هو ديفيد فايس، للتحقيق في سلوك هانتر بايدن.
وفايس، المعيّن من قبل ترامب، كان يحقّق أساساً في "مزاعم عن سلوك إجرامي" لهانتر بايدن، منذ عام 2019. وجاء تعيين فايس من قبل وزارة العدل، بعدما انهارت صفقة بين هانتر بايدن والقضاء بشأن الملاحقات بحقه. وفي كل ذلك، يؤكد الرئيس بايدن دعمه الكامل لابنه، لكنه يجزم على الدوام أنه لم يتدخل بأعمال ابنه، وليست له أي علاقة بها، خصوصاً خلال فترة توليه منصب نائب الرئيس (الأسبق) باراك أوباما.
مساءلة بايدن من دون دلائل
ولا يملك الجمهوريون أي دليل على تورط بايدن بأعمال ابنه، لكنها قضية تعود إلى سنوات ترامب، الذي ظلّ يثير الموضوع، رداً على التحقيق الذي فتح بحقّه، وإجراءات مساءلته، بتهمة تورط حملته الرئاسية بمسألة التدخل الأجنبي (الروسي) بالانتخابات الرئاسية لعام 2016، والتي فاز بها ترامب. ويأمل الجمهوريون في إصابة عصفورين بحجر واحد من إطلاق المساءلة، وهي أن توفر المزيد من الثقل لتحقيق مجلس النواب بأعمال هانتر بايدن أولاً، وثانياً زيادة الضغط على الرئيس الذي يتحضر لانتخابات رئاسية صعبة العام المقبل، مع تقدمه في السنّ أكثر، واستمرار تدني شعبيته في استطلاعات الرأي. كما يأمل الجمهوريون في أن تكون إجراءات المساءلة القوة التي ستمكنهم من الوصول إلى سجلات مالية لعائلة بايدن، يكافح التحقيق النيابي للوصول إليها.
وقال مكارثي، أول من أمس، في تصريح صحافي: "أوجّه لجاننا في مجلس النواب لفتح تحقيق رسمي لعزل الرئيس جو بايدن". وأوضح رئيس مجلس النواب الأميركي أن "التحقيق سيسمح للمشرعين بجمع الأدلة"، مشيراً إلى أن الجمهوريين "كشفوا مزاعم خطيرة وذات مصداقية بشأن سلوك بايدن". وقال مكارثي إن التحقيق سيركّز على ما إذا كان الرئيس بايدن قد استفاد من تعاملات ابنه التجارية من بين أمور أخرى، لافتاً إلى أن "هذه الادعاءات تتعلق باستغلال السلطة والفساد، وتستوجب مزيداً من التحقيق من قبل مجلس النواب"، متهماً بايدن بتغذية "ثقافة الفساد".
ويرى الديمقراطيون من جهتهم، وكذلك الرافضون للتحقيق من الجمهوريين، أن إجراءات المساءلة بحق بايدن تحمل أهدافاً سياسية، علماً أن المساءلة في الكونغرس لعزل الرئيس لطالما شكّلت أداة سياسية للحزب المنافس. وينص الدستور على مساءلة الرئيس حول ارتكابه "الخيانة والرشوة وجرائم وجنح كبيرة"، وهي عبارة لم يتفق كثيراً الخبراء الدستوريون حولها. علماً أن مساءلة الرؤساء الأميركيين ظلّت نادرة على مرّ التاريخ، وتمكن الرئيس ريتشارد نيكسون من تلافيها، بعدما أطلق الكونغرس إجراءات لعزله على خلفية فضيحة "ووترغيت"، ما دفع ثمنه استقالته حتى لا يتم عزله. وكان نيكسون في الواقع الرئيس الأميركي الوحيد المهدد فعلاً بالعزل، وهو إجراء يتطلب تصويت ثلثي مجلس الشيوخ، وفشل في حالتي كلينتون وترامب.
وتحدث مكارثي، أول من أمس، خلال الإعلان، عن أسباب لبدء المساءلة، لم يجد التحقيقان المستمران في مجلس النواب ووزارة العدل حول هانتر بايدن أي دلائل تتعلق بها حتى الآن، وقال إنه "من خلال تحقيقاتنا، وجدنا أن الرئيس بايدن كذّب على الشعب الأميركي حول معرفته بتعاملات عائلته التجارية الخارجية".
وأضاف رئيس مجلس النواب الجمهوري، الذي أوضح أن لجنة الرقابة والمحاسبة النيابية (برئاسة الجمهوري جايمس كومر) ستقود التحقيق، أن "شهوداً عيان أدلوا بشهاداتهم بأن الرئيس انضم إلى عدد من المكالمات الهاتفية، وكان له تواصل، مآدب عشاء... أفضت إلى ملايين الدولارات، والسيارات، التي حصل عليها ابنه، والملايين التي ضخّت إلى حسابات شركاء ابنه".
لم يعرض مكارثي مسألة المساءلة لتصويت مجلس النواب
واستطرد مكارثي: "نعلم أن الحسابات المصرفية أظهرت أن حوالي 20 مليون دولار حوّلت إلى حسابات لأفراد من عائلة بايدن وشركائهم من خلال شركات وهمية"، لافتاً إلى أنه "وحدها وزارة العدل لديها أكثر من 150 تحويلاً صنّفت أعمالاً مريبة من قبل المصارف الأميركية"، وأشار إلى أن "بايدن استخدم مكتبه الرسمي (بعهد أوباما) للتنسيق مع أعمال هانتر بايدن وشركاء الأخير حول عمله في بوريسما، وهي شركة طاقة أوكرانية". وأضاف أنه "رغم كل ذلك، فإن عائلة بايدن يبدو أنها حظيت بمعاملة خاصة من قبل إدارة بايدن"، في إشارة إلى وزارة العدل، حيث يتهم الجمهوريون وزارة العدل بالتساهل مع قضية هانتر بايدن، وعزمها على إبرام صفقة لتبرئته وإغلاق قضاياه. يذكر أنه يتوقع أن يتم توجيه الاتهام إلى هانتر بايدن بنهاية سبتمبر/ أيلول الحالي بجريمة فيدرالية هي حيازة سلاح ناري. وختم مكارثي بالقول: "سنذهب الى حيث تأخذنا الأدلة".
شهادة آرتشر
ورفض البيت الأبيض والديمقراطيون هذه الاتهامات. وقال البيت الأبيض إنه "لا يوجد أساس لإجراء تحقيق لعزل بايدن". وكتب المتحدث باسمه إيان سامز، على موقع التواصل الاجتماعي "إكس"، أن "الجمهوريين في مجلس النواب ظلوا يحققون لمدة 9 أشهر، ولم يعثروا على أي دليل على ارتكاب أي مخالفات"، مندداً بـ"الدوافع السياسية" لقرار الجمهوريين. وصوب على مكارثي، قائلاً إنه "تعهّد بإجراء تصويت لبدء العزل، لكنه تراجع عن ذلك بسبب عدم توافر التأييد الكافي له"، في إشارة إلى تراجع رئيس المجلس عن طرح مسألة المساءلة بهدف العزل على تصويت النواب قبل الشروع في إجراءات العزل. وكان مكارثي قد تعهد بذلك، لكنه تراجع خشية أن يسحب النواب المتطرفون الثقة منه. كما كان سامز قد رأى في وقت سابق أن مكارثي "كمن يلقي لحمة حمراء للجناح المتشدد"، عبر استمرار تلويحه بفتح تحقيق.
ويرى الديمقراطيون أن محاولة عزل الرئيس محاولة لصرف انتباه الرأي العام عن المشكلات القانونية لترامب. وندّد النواب الديمقراطيون بالخطوة، قائلين إنها ممارسة بحت حزبية تهدف إلى الانتقام من محاولة العزل المزدوجة التي قام بها مجلس النواب في حق الرئيس الجمهوري السابق. وقالت النائبة الديمقراطية ديبي فاسرمان شولتس أنه "ليست هناك أي أدلة، بل كل ما هناك مجرد أمر من ترامب لبدء إجراءات العزل". وأكد النائب الديمقراطي جيرولد نادلر على عدم وجود "أي أساس لبدء هذا التحقيق المزعوم"، معتبراً أنه "قد يفلح رئيس المجلس في الاحتفاظ بمنصبه ليوم إضافي، لكنه رضخ مرة جديدة إلى العناصر الأكثر تطرفاً في حزبه".
لكن الرئيس الديمقراطي كان يدرك من دون شك أن الجمهوريين يتحضرون لملاحقته على خلفية أعمال ابنه. وذكرت شبكة "سي أن بي سي" أمس، أن البيت الأبيض بدأ منذ العام الماضي، في تشكيل فريق دفاعي لنقض ادعاءات الجمهوريين ومواجهة تحركاتهم في الكونغرس. ورأت الشبكة أن قرار مكارثي عدم أخذ المساءلة إلى التصويت العام، يعني للوهلة الأولى أن اللجنة الموكلة بالتحقيق لن تمنح صلاحيات استثنائية أكثر من تلك التي تمنحها إياها قوانين المجلس.
ويعتمد الجمهوريون في تحقيقهم على شهادة ديفون آرتشر، وهو رجل أعمال وشريك سابق لهانتر بايدن، الذي أخبر لجنة تحقيق المجلس أنه خلال فترة 10 سنوات، وضع هانتر بايدن والده على سمّاعة الهاتف أكثر من 20 مرة حين كان في اجتماعات مع شركائه"، وأن جو بايدن حضر مأدبتي طعام مع هانتر وشركائه. لكنه أكد أن بايدن الأب لم يناقش خلال تلك الجلسات أو المكالمات أي شؤون لها علاقة بالأعمال التجارية، بل لفت إلى أن هانتر بايدن حاول استغلال منصب والده للإيحاء بأنه يمكنه في أي لحظة الوصول إليه كجزء من "علامته التجارية".
ويرى خبراء أن سلاح المساءلة سيف ذو حدين، إذ بينما خسر الجمهوريون مقاعد عدة وتراجعوا في الانتخابات النصفية عام 1998، بعد رفعهم إجراءات عزل كلينتون، إلا أن الديمقراطيين فازوا بالرئاسة عام 2020، ولم يخدم التعاطف الجمهوري ترامب.
(العربي الجديد، رويترز، فرانس برس، أسوشييتد برس)