عند توليه منصبه، لم يكن بايدن قد أعطى أولوية للشرق الأوسط في قائمة أهدافه للسياسات الخارجية، كذلك فإنه لم يعيّن بعد سفيراً لإسرائيل أو مبعوثاً خاصاً. لكن العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة شكّل اختباراً مبكراً لعلاقة بايدن ونتنياهو، التي تطوّرت على مدى أربعة عقود من الأدوار السياسية المتقاطعة.
دبلوماسية الدعم العلني والضغوط خلف الكواليس
بحسب "سي أن أن" فقد قدمت العملية الإسرائيلية ووقف إطلاق النار اللاحق لمحة مبكرة عن كيفية تعامل بايدن، وهو الرئيس الأكثر دراية بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة من أي من أسلافه، مع الأزمات الخارجية سريعة التطور، حيث أسس نهجه على دبلوماسية خاصة مبنية على التصريحات العامة الاستباقية، على الرغم من تعرّضه لانتقادات مستمرة من أعضاء حزبه الديمقراطي لعدم التحدّث علناً وبفاعلية أكبر، وهو الذي يُنظر إليه على أنه داعم قوي لإسرائيل طوال حياته السياسية.
وبحسب الشبكة الأميركية، فقد شعر بايدن بأنه إذا واصل دعم إسرائيل في العلن، بينما يمارس من كثب ضغوطاً على قادتها من وراء الكواليس؛ فإنه فسيكون قادراً أكثر على "إنهاء العنف بشكل أسرع"، بحسب مصدر مقرب من بايدن نقلت عنه "سي أن أن".
وفي تصريحات صُمّمت لتحقيق توازن دقيق، كرر بايدن تأكيد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها من هجمات "حماس" الصاروخية، والتزم مساعدتها على تجديد نظام "القبة الحديدية" للدفاع الصاروخي؛ لكنه أشار أيضاً إلى ضرورة تحسين أوضاع الفلسطينيين، دون انتقاد تصرفات إسرائيل، وعلى وجه التحديد في الفترة التي سبقت بدء العدوان على غزة، بما في ذلك مخططات إخلاء عائلات فلسطينية من حيّ الشيخ جراح المقدسي.
وبحسب مسؤول رفيع في إدارة بايدن، فإن صبره راح ينفد على نحو متزايد مع نتنياهو، وتبنى لهجة أكثر "مباشرة وصريحة" خلال مكالمة يوم الأربعاء "مقارنة بأي من المحادثات السابقة منذ توليه منصبه".
وفي مكالمتهما يوم الأربعاء، أراد بايدن أن يأخذ نتنياهو تحذيره الصارم على محمل الجد، بالنظر إلى أنه انتظر بهدوء أياماً لإيصاله، حسبما قال العديد من الأشخاص المطلعين على الأمر. وجزء من حسابات بايدن في ما يتعلّق بالبقاء هادئاً في العلن، كان مردّه القلق من أن يتجاهل نتنياهو المطالب العامة بوقف التصعيد، بحسب "سي أن أن".
وما كان يخشاه بايدن وقع بالفعل، فبعد أن قال البيت الأبيض إن بايدن قال لنتنياهو إنه يتوقع تهدئة كبيرة اليوم (الأربعاء) على طريق وقف إطلاق النار، خرج نتنياهو من زيارة لمركز قيادة الجيش ليعلن أنه "مصمم على مواصلة هذه العملية". ولاحقاً، شنت عشرات الطائرات الحربية الإسرائيلية يومي الأربعاء والخميس سلسلة غارات جوية على أهداف عديدة.
ولعل عدم امتثال نتنياهو، هو ما دفع بايدن إلى إجراء مكالمتين هاتفيتين أخريين معه يوم الخميس، إحداهما كانت بعد إعلان وقف إطلاق النار، بحسب ما ترى "واشنطن بوست".
من الدعم المطلق إلى نفاد الصبر
استخدم بايدن نبرة ودية في 12 مايو/ أيار، في أول مكالمة هاتفية أجراها مع نتنياهو، وكان القتال قد بدأ قبل ذلك بيومين، وفقاً لمصادر "واشنطن بوست". وقد قدّم مساعدو بايدن لاحقاً بيان دفاع قوي عن إسرائيل، حيث أدان بايدن هجمات "حماس" الصاروخية، وأكّد "دعمه الثابت لأمن إسرائيل وحقها المشروع في الدفاع عن نفسها وشعبها، مع حماية المدنيين".
في اليوم التالي، كان بايدن لا يزال يدعم العملية الإسرائيلية دون تحفّظ، قائلاً إنه لم يرَ "رد فعل مبالغاً فيه". وبحلول ذلك الوقت، بعد ثلاثة أيام من العدوان، كان قد قُتل 85 فلسطينياً في غزة، من بينهم صبيّان كانا يلعبان خارج منزلهما في بلدة بيت حانون جنوبيّ القطاع، إلى جانب مقتل 10 إسرائيليين.
لاحقاً، أخذ صبر الولايات المتحدة ينفد. وجادل المسؤولون الأميركيون بأنه مع مرور الوقت، يجب على الجيش الإسرائيلي أن يوازن بين "الضرورة العسكرية المشروعة" لتدمير مواقع الصواريخ والأهداف الأخرى، وبين الخسائر في الأرواح والمواقف الدولية المترتبة على استمرار العدوان.
وفي الأسبوع الأخير، كان التغيير واضحاً. فيوم الاثنين، تحدث بايدن مع نتنياهو للمرة الثالثة منذ بدء الأزمة، و"أعرب عن دعمه لوقف إطلاق النار"، بحسب بيان البيت الأبيض. وعلى الرغم من أن هذا البيان بدا معتدلاً، فإنه كان يمثل بداية العد التنازلي لانتهاء الدعم الأميركي للعملية.
نقطة التحول المحورية في الموقف الأميركي تجاه العملية الإسرائيلية جاءت في 15 مايو/أيار، عندما دمرت غارة جوية إسرائيلية "برج الجلاء"
يوم الأربعاء، في محادثته الهاتفية الرابعة مع نتنياهو، وجّه بايدن تحذيره الأكثر صرامة، وجاء البيان اللاحق مقتضباً، ولم يذكر حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وقال إن بايدن "أبلغ رئيس الوزراء أنه يتوقع تهدئة كبيرة اليوم على طريق وقف إطلاق النار".
ولم يمتثل نتنياهو على الفور، واستمر في الضغط عبر حملة قصف جوية استمرت حتى يوم الخميس، مع تبلور مفاوضات وقف إطلاق النار. التي شاركت بها مصر بوصفها وسيطاً مع "حماس".
برج الجلاء... نقطة التحول
ترى "واشنطن بوست" أن نقطة التحول المحورية في الموقف الأميركي تجاه العملية الإسرائيلية جاءت في 15 مايو/ أيار، عندما دمرت غارة جوية إسرائيلية "برج الجلاء" الذي كان يضم مكتباً لوكالة "أسوشييتد برس" و"قناة الجزيرة" ومراكز إعلامية أخرى، وادعت إسرائيل أنه كان يضم عناصر تتبع لـ"حماس".
وبحسب الصحيفة، فقد علم موظفو إدارة بايدن بالضربة بالطريقة نفسها التي علم بها العالم؛ من خلال الصور والفيديوهات التي نشرتها وسائل الإعلام، وذلك وفقاً لما ذكره مصدر مطلع في الإدارة.
بعد الضربة، تحول موقف الإدارة من الدعم غير المشروط للخطوات الإسرائيلية، إلى الدعم المخفف بالإشارة إلى الحقوق الفلسطينية وبدء الضغط على نتنياهو لإنهاء العدوان.
وفي المكالمة الهاتفية الثانية، ذكر بيان صادر عن البيت الأبيض أن بايدن "أثار مخاوف بشأن سلامة الصحافيين وأمنهم، وعزز الحاجة إلى ضمان حمايتهم".
وفي اليوم التالي، ذكر وزير الخارجية أنتوني بلينكن، في مؤتمر صحافي في كوبنهاغن، أن الولايات المتحدة طلبت من إسرائيل "تفاصيل إضافية بشأن تبرير" هجومها على "برج الجلاء"، لكنه "لم يرَ أية معلومات قُدّمت".
وفي الأيام التي تلت ذلك، أكد المسؤولون الإسرائيليون أن المعلومات الاستخباراتية التي تظهر أن المبنى كان يؤوي عناصر من "حماس"، قد جرى تقاسمها مع الولايات المتحدة، ولكنهم حثوا إسرائيل على نشر المزيد من المعلومات. وتنقل "واشنطن بوست" عن أحد المصادر أن سخطاً وعدم تصديق كان يسود بين مساعدي بايدن، الذين اعتبروا أنه مهما كان المبرر، فإن تدمير المبنى لم يكن الحل، ولم يكن خطوة مفيدة.
الحزب الديمقراطي محبط من نتنياهو وحكومته
لقد كشف العدوان عن ديناميكية سريعة التحوّل في الحزب الديمقراطي، حيث شعر الأعضاء التقدميون بحرية انتقاد إسرائيل علناً، بل إن أولئك الذين لطالما دعموا حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، طالبوا أيضاً بوقف إطلاق النار.
وبحسب "واشنطن بوست"، فإن البيان الذي صدر يوم السبت الماضي عن السناتور روبرت مينينديز، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، كان قاسياً بشكل غير عادي، وأثار على الفور "ضجة" داخل البيت الأبيض، بحسب مصادر الصحيفة.
فمينينديز، المؤيد القوي لإسرائيل عادة، رأى أن إسرائيل تحتاج إلى تبرير أفعالها، وبخاصة "تدمير مبنى شاهق في غزة يحتوي على مكاتب إعلامية دولية". واختتم بيانه قائلاً: "يجب أن ينتهي هذا العنف". "أي موت للمدنيين الأبرياء من اليهود والعرب على حد سواء هو انتكاسة للاستقرار والسلام في الشرق الأوسط".
يعكس بيان السناتور روبرت مينينديز الشكوك المتزايدة تجاه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بين الديمقراطيين
وبحسب الصحيفة، فإن موقف مينينديز، الذي جاء بدون تنسيق مع البيت الأبيض، يعكس الشكوك المتزايدة تجاه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بين الديمقراطيين، الذين يشعرون بالقلق من الإجراءات الأخيرة له، فضلاً عن عدم ارتياحهم لعلاقته المتحمسة مع الرئيس السابق دونالد ترامب.
لقد كرر مينينديز في بيانه تأكيد حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، لكن ذلك، كما ترى "واشنطن بوست"، موقف تقليدي من الحزبين يشترك فيه معهما بايدن. لكنه أضاف: "إنني منزعج للغاية من التقارير التي تتحدث عن أعمال عسكرية إسرائيلية أدت إلى مقتل مدنيين أبرياء في غزة، فضلاً عن استهداف إسرائيل لمبانٍ تضمّ وسائل إعلام دولية".
ونتنياهو الذي يواجه اضطرابات سياسية في إسرائيل، يبدو أنه يواجه جمهوراً متشككاً بشكل متزايد بين المشرعين الديمقراطيين الأميركيين إلى جانب مينينديز، حيث دعت النائبة رشيدة طليب، وهي من منتقدي إسرائيل الدائمين، إلى إنهاء نظام الفصل العنصري الذي عرّض الفلسطينيين لعقود من المعاملة غير الإنسانية والعنصرية".
والثلاثاء، تحدثت طليب مع بايدن على انفراد في ديربورن، بولاية ميشيغان، والتي يبلغ الأميركيون العرب ما يقرب من 50 في المئة من سكانها، وشكر بايدن طليب لكونها "مقاتلة" وقال إنه كان يصلي من أجل "جدتها وعائلتها" في الشرق الأوسط.
أما الخميس، فقد قدم السناتور بيرني ساندرز، وهو أميركي يهودي، مشروع قرار يرفض بيع الولايات المتحدة أسلحة دقيقة التوجيه بقيمة 735 مليون دولار لإسرائيل. فيما قال أحد المصادر لصحيفة "واشنطن بوست" إن العديد من الديمقراطيين الذين يدعمون إسرائيل أصبحوا محبطين بشكل متزايد من نتنياهو وحكومته.
ويرى بعض المراقبين أن بيان مينينديز ومواقف زملائه شكّلت جميعها فرصة جيدة لبايدن وفريقه لاتخاذ موقف أكثر صرامة مع نتنياهو، عبر أداء دور "الشرطي الجيد والشرطي السيئ"، كما يرى موقع "أكسيوس" الأميركي.
قلق إسرائيلي ودعوة إلى التحرك
ينقل موقع "أكسيوس" عن السفير الإسرائيلي في واشنطن، جلعاد إردان، قوله إن التغيير داخل الحزب الديمقراطي والنفوذ المتزايد للتقدميين كان له تأثير كبير في كيفية إدارة أزمة غزة.
ويرى إردان أن على إسرائيل العمل على زيادة وصولها إلى الأقليات في أميركا لبناء قواعد دعم جديدة داخل اليسار الأميركي.
وينقل "أكسيوس" عن ديمقراطيين اتفاقهم على وجود تحول واضح إلى اليسار من قبل أعضاء مجلس الشيوخ بشأن إسرائيل، وتعزو مصادر الموقع هذا التحوّل إلى تأثير النشطاء الفلسطينيين بشكل خاص.