خلال السنوات الثلاث الأخيرة نجحت بغداد في سحب الكثير من الصلاحيات التي كانت تتمتع بها حكومة إقليم كردستان شماليّ العراق، منذ الغزو الأميركي في عام 2003، وهو إجراء قال سياسيون ومسؤولون في الإقليم إنه مدعوم إيرانياً، ويهدف إلى تفتيت حالة الاستقلالية الأمنية والإدارية التي يتمتع بها.
وينص الدستور العراقي النافذ منذ عام 2005 على امتلاك كردستان سلطة إدارة شؤون الإقليم، بينما تتمتع بغداد بالسلطة الاتحادية على العراق ككل، بما فيها السياسة الخارجية وشؤون الأمن والدفاع.
تنوع أساليب بغداد لقضم صلاحيات إقليم كردستان
وتنوعت الأساليب التي استخدمتها بغداد لتقليص صلاحيات إقليم كردستان، سواء من خلال القضاء، ممثلاً بالمحكمة الاتحادية العليا في بغداد، وصولاً إلى توظيف أوراق ضغط تمتلكها الحكومة المركزية ونجحت في إخضاع الإقليم لها.
والأسبوع الماضي، أصدرت المحكمة الاتحادية العليا حزمة من القرارات غير المسبوقة، نزعت بموجبها تصرف حكومة الإقليم بالشؤون المالية، وفرضت أن توزع بغداد مرتبات موظفي إقليم كردستان، بمن فيهم قوات البشمركة والشرطة المحلية، البالغة أكثر من مليون وربع مليون موظف، وهو ما لم يكن معمولاً به من قبل، حيث تُرسل بغداد الأموال إلى حكومة الإقليم التي توزعها على موظفيها.
مهدي تقي: هناك عمل لترسيم العلاقة والصلاحيات بين بغداد وأربيل وفق الدستور
كذلك أصدرت المحكمة أمراً بأن تتولى مفوضية الانتخابات العراقية تنظيم انتخابات برلمان إقليم كردستان، وأن تُلغى مفوضية الانتخابات التي تعمل بالإقليم منذ عام 2006.
وسبق ذلك قرار من المحكمة في عام 2022، ألغت فيه قانون النفط والغاز المعمول به في الإقليم، وألزمت أربيل بتسليم "كامل إنتاج النفط، من الحقول التي كانت وزارة الثروات الطبيعية في حكومة إقليم كردستان تستخرج النفط منها، وتسليمها للحكومة الاتحادية، المتمثلة بوزارة النفط العراقية، وتمكينها من استخدام صلاحياتها الدستورية بخصوص استكشاف النفط واستخراجه وتصديره".
القرارات المتتالية من القضاء العراقي ممثلاً بالمحكمة الاتحادية، تزامنت مع قرارات مماثلة للحكومة، من بينها توحيد الإجراءات القضائية بين المحاكم العراقية ومحاكم الإقليم وتسليم المطلوبين، وإلغاء إجراءات الرسوم الجمركية الخاصة بالإقليم، وحصرها بيد بغداد فقط، إلى جانب الحد من سلطة إقليم كردستان في منح تأشيرات الدخول للأراضي العراقية، وحصرها بيد بغداد في ما يتعلق بالدول التي تفرض بغداد تأشيرة مسبقة للدخول إليها.
البداية عقب تنظيم أربيل استفتاء الانفصال
لكن البداية الفعلية لهذا التوجه كانت عقب تنظيم أربيل في أكتوبر/ تشرين الأول 2017 استفتاءً شعبياً لمواطني الإقليم البالغ عددهم نحو 5 ملايين شخص، يتضمن رأيهم في الانفصال عن العراق.
وردّت بغداد وقتها بحملة عسكرية مدعومة من فصائل "الحشد الشعبي"، استعادت خلالها السيطرة على كركوك و9 مدن رئيسية كانت خاضعة لسلطة قوات البشمركة شماليّ البلاد، أبرزها زمار ومخمور وبعشيقة وتلكيف وأجزاء واسعة من سهل نينوى وسنجار وخانقين والتون كوبري.
كذلك فرضت وقتها حظراً جوياً على مطارات الإقليم، قبل أن تعود وترفعه بعد اتفاق على خضوع المطارات والمنافذ الحدودية لإدارة بغداد، عبر ضباط من وزارة الداخلية وقوات خاصة.
وتحدث عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني، مهدي عبد الكريم، عن وجود "توجه سياسي في بغداد"، قال إنه "يعمل على سحب صلاحيات إقليم كردستان بشكل تدريجي وممنهج، من خلال قرارات من المحكمة الاتحادية، تحمل أجندة سياسية واضحة، بعيدة كل البعد عن المواد الدستورية والقانونية".
وبيَّن عبد الكريم، لـ"العربي الجديد"، أن "الدستور العراقي واضح في صلاحيات الإقليم، لكن الآن هناك من قرر الالتفاف على مواد هذا الدستور لتحقيق أجندة سياسية وجعل الإقليم بلا صلاحيات، حتى يتعرض للتهديد والابتزاز من قبل الأطراف السياسية في بغداد، وهذا الأمر لم ولن نقبل به إطلاقاً".
عمليات تهديد وابتزاز سياسي لإقليم كردستان
واعتبر أن "إقليم كردستان تعرض طوال الأشهر الماضية لعمليات تهديد وابتزاز سياسية كثيرة، وحتى عمليات القصف التي تعرض لها بشكل شبه يومي، كانت عبارة عن رسائل سياسية. كما أن هناك التفافاً على تنفيذ الاتفاق السياسي، بحجة صدور قرارات قضائية لا تخلو من الجنبة السياسية، بل ربما بعضها يصدر بضغوط سياسية أصلاً".
من جهته، قال مسؤول رفيع المستوى في محافظة السليمانية، ثاني مدن إقليم كردستان العراق، التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الغريم التقليدي للحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في الإقليم بزعامة مسعود البارزاني، لـ"العربي الجديد"، إن "الإقليم خسر خلال السنوات الثلاث الماضية تحديداً الكثير من صلاحياته، وسيخسر مستقبلاً ملف إدارة الموارد النفطية أيضاً".
المسؤول الذي اتهم الحزب الحاكم في أربيل بأنه وراء منح بغداد "حججاً"، لتنفيذ ما وصفه بـ"مخطط ترغب فيه إيران وتركيا أيضاً، وهو إفراغ الإقليم الكردي من أي عوامل استقلال بالقرار أو الإدارة"، أشار إلى أن "القوات العراقية التابعة لبغداد وصلت لأول مرة إلى الحدود بين أربيل والسليمانية وكل من إيران وتركيا منذ عام 1991، وهذا جاء بضغط تركي إيراني صبّ بالنهاية لصالح بغداد وليس الإقليم".
أحمد الشريفي: القرارات القضائية سوف تفجر خلافاً جديداً بين بغداد وأربيل على الصلاحيات
في المقابل، قال النائب عن "الإطار التنسيقي" مهدي تقي، لـ"العربي الجديد"، إن "ما يصدر عن المحكمة الاتحادية ملزم التنفيذ لحكومة إقليم كردستان ولا يمكن للإقليم التمرد على تلك القرارات بأي حجة وسبب كان، فما يصدر عن الاتحادية غير قبل للطعن أو التمييز".
عمل لترسيم العلاقة بين بغداد وأربيل
وبيّن تقي أن "هناك عملاً لترسيم العلاقة والصلاحيات بين بغداد وأربيل وفق الدستور، ولا يمكن لأي أحد تجاوز ذلك، والمحكمة الاتحادية هي السلطة العليا لتفسير فقرات الدستور، وما يصدر عنها بعيد عن أي ضغوط سياسية، ولا يوجد أي تدخل سياسي بعمل أي من المؤسسات القضائية".
ولفت إلى أن "إقليم كردستان طوال السنوات الماضية استغل ضعف الحكومة الاتحادية والخلافات بين الأطراف السياسية، وكان يعمل كدولة مستقلة وليس جزء من العراق، والآن ما يجري هو تصحيح للوضع، وليس هناك نية لاستهداف الإقليم سياسياً عبر المؤسسات القضائية، بل هناك عمل لتصحيح المسار الدستوري والقانوني لصلاحيات الإقليم، المحددة ضمن الدستور".
أهداف سياسية لسحب صلاحيات إقليم كردستان
بدوره، لفت المحلل السياسي أحمد الشريفي، لـ"العربي الجديد"، أن "التوجه الواضح هو سحب الحكومة الاتحادية صلاحيات إقليم كردستان، وهذا الأمر أكيد له أهداف سياسية واضحة، وأبرزها الضغط على القوى الكردية بالقضايا المالية والنفطية، مقابل أي ملف سياسي خلال المرحلة المقبلة، بخاصة المتعلقة بتشكيل الحكومة العراقية خلال السنوات المقبلة".
وقال الشريفي إن "العمل على سحب صلاحيات الإقليم تتم حالياً عبر إجراءات قضائية، خاصة أنه لا يمكن الطعن بهذه الإجراءات، فهي تصدر من أعلى سلطة قضائية في البلاد. لكن هذه القرارات ستفجر خلافاً جديداً بين بغداد وأربيل على الصلاحيات، وهذا قد يدفع الإقليم إلى التمرد على كل هذه القرارات، وهنا يدخل العراق بأزمة سياسية خطيرة وكبيرة".
وأوضح أن "إقليم كردستان يملك علاقات دولية كبيرة، خصوصاً مع أميركا وغيرها من الدول الكبرى، وهذه العلاقات قد تكون عامل ضغط على الحكومة الاتحادية والأطراف السياسية في بغداد من أجل إيقاف تحركات سحب صلاحيات الإقليم، وجعل كردستان كحال باقي المحافظات، التي فيها حكومات محلية بصلاحيات محدودة جداً".
نموذج كردستان غير مريح لإيران وتركيا
لكن شيروان عقراوي، الناشط السياسي الكردي في دهوك، ثالث مدن إقليم كردستان العراق والحدودية مع تركيا، قال لـ"العربي الجديد" إن "نموذج إقليم كردستان الحالي غير مريح للإيرانيين والأتراك على حد سواء، وهم متفقون على ضرورة الحد من استقلاله الإداري والأمني عن بغداد".
واعتبر أن "طهران تعتبر أن بقاء الإقليم خارج نفوذ الحشد الشعبي، والأحزاب الحليفة لإيران، أمر غير مريح لها. كما أن تركيا بدأت تستشعر خطورة نموذج إقليم كردي على حدودها حقق نجاحاً على مستوى الخدمات والإعمار. لهذا نجد أننا أمام صفحة جديدة لنزع كثير من امتيازات الإقليم". ولفت إلى أن أميركا "لم تُظهر أي اهتمام أو تأثر بالنهج الجديد الداخلي المتبع من بغداد تجاه أربيل".