من اعتقد أن الزعيم السابق لحزب "المحافظين" البريطاني، بوريس جونسون سيغيب عن الأنظار مع تنحّيه عن رئاسة الحكومة قبل أشهر، فهو مخطئ حتماً. إذ لا تكاد أخباره تخفت، حتى تبدأ من جديد بتصدّر عناوين الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي واللقاءات المغلقة وتلك المفتوحة التي تعقد في مجلس الوزراء واللوردات والبرلمان، حتى وإن تفاوتت بين الإدانة والشجب أو التندّر على فترة ولايته وأخطائه التي قد تبدو للبعض اليوم أقلّ وطأة بالمقارنة مع أخطاء ليز تراس أو ريشي سوناك.
وإن كان تنحّيه الصيف الماضي قد تزامن مع طيّ حقبة تاريخية وسياسية واقتصادية، فإن جونسون قد انتهز كل الفرص الممكنة التي وفّرها الغزو الروسي على أوكرانيا وتداعياته المدمّرة على الاقتصاد البريطاني والاستجابة السبّاقة للمملكة المتحدة، إضافة إلى ما مثّله رحيل الملكة إليزابيث الثانية من أبعاد رمزية في الوجدان البريطاني، بحيث بات غلاء المعيشة، وارتفاع أسعار الطاقة، وقيمة الضرائب، وانهيار قطاع الخدمات العامة، يهزّ ذلك الوجدان أكثر بكثير من إقامة حفل صاخب في "داونينغ ستريت" وخرق قواعد الإغلاق قبل عامين.
وبالتوازي مع تصاعد الأصوات المطالبة بعودته إلى الزعامة، دعا حزب العمال المعارض، أمس الأحد، إلى فتح تحقيق في المزاعم التي أوردتها صحيفة "صنداي تايمز" بأن رئيس هيئة الإذاعة البريطانية ريتشارد شارب الشريك السابق في مصرف "غولدمان ساكس" قد ساعد جونسون أواخر عام 2020 في الحصول على ضمان يمكّنه من اقتراض ما يصل إلى 800 ألف جنيه إسترليني (989.744 دولاراً أميركياً)، وذلك قبل وقت قصير من التوصية التي قدّمها جونسون والتي ساهمت لاحقاً بتعيين شارب في منصبه الجديد رئيساً لـ"بي بي سي" عام 2021.
ومع أن شارب نفى تلك المزاعم، إلا أنه طلب من لجنة الترشيحات التابعة لمجلس إدارة الهيئة العامة للإذاعة البريطانية بالتحقيق وبمراجعة أي "تضارب" محتمل في المصالح، وضمان "اتباع جميع الإرشادات المناسبة".
من جهته، نفى متحدث باسم جونسون تلك المزاعم "السخيفة"، مشيراً إلى أن رئيس الحكومة الأسبق "لم يتلق ولم يطلب أي مشورة مالية من شارب". بينما صرّح وزير الخارجية جيمس كليفرلي بأنه لم يدقّق فيما إذا كانت رواية "صنداي تايمز" للأحداث "دقيقة"، قائلاً إن شارب هو "شخص ناجح" جلب معه "ثروة من الخبرة"، وقد تمّ تعيينه "على أساس الجدارة".
وبعد ما يقارب العام على بدء الغزو الروسي على أوكرانيا، لا تزال كييف هي "الحضن" الأمثل بالنسبة لجونسون للهرب والتهرّب من "الفضائح" التي تلاحقه. ففي حين تزامنت زياراته الثلاث العام الماضي مع أحلك الأوقات التي مرّت بها حكومته، تتزامن زيارته "المفاجئة"، أمس الأحد، مع قضية القرض الكبير الذي حصل عليه أثناء رئاسته للحكومة، ومع مطالب "حزب العمال" المعارض بفتح تحقيق في هذا الشأن. لا بل وتتزامن أيضاً مع تراجع شعبية حكومة سوناك وغرق الناخبين البريطانيين في حالة من انعدام اليقين مع فصل شتاء هو الأقسى منذ عقود، من حيث شدّة البرد والصقيع، ومن حيث غلاء المعيشة، وتدهور القطاعات الحيوية، لا سيما قطاع الصحة والنقل العام.
وإن كان جونسون قد فقد ألقه بالنسبة إلى شريحة كبيرة من الناخبين، إلا أنه لا يزال "بطلاً" بالنسبة إلى الأوكرانيين بعد الدعم غير المسبوق الذي قدّمته بلاده للشعب الأوكراني منذ فبراير/ شباط الماضي ونظراً للصداقة الشخصية التي تجمعه بالرئيس فولوديمير زيلينسكي والتي يفتقر إليها الزعيم الحالي ريشي سوناك من ضمن ما يفتقر إليه.
وتأتي زيارة جونسون إلى كييف وبلدتي بوتشا وبورودينكا بعد أسبوع من حصوله على الميدالية الفخرية "مواطن كييف" والتي منحه إياها عمدة المدينة فيتالي كليتشكو الأسبوع الماضي في دافوس، ولم يمنحها لسوناك أو أي مسؤول آخر. خاصة أن جونسون حسم الجدل حول تزويد أوكرانيا بدبابات قتال متقدّمة فوافقت المملكة المتحدة على إرسال دبابات تشالنجر 2 إلى ساحة المعركة بينما لا تزال ألمانيا متردّدة في إرسال دبابات "ليوبارد 2" مع أنها الخيار المثالي لأوكرانيا، كونها الأكثر استخداماً وانتشاراً بين الدول الأوروبية في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ما يسهّل نقلها ونقل ذخائرها برّاً.
كما لا يمكن للمراقب إلا أن يلمح الإشارات التي يرسلها جونسون من كييف إذ تمثّل زيارته كرجل لا يشغل أي منصب رسمي في الحكومة، تقويضاً لحكومة سوناك التي تعيش أزمات حقيقية تكاد أصداؤها تطغى على "فضائح" الحكومة السابقة.
من جهة أخرى، لم يعد يخفى على أحد أن كييف هي "المخبأ" الوحيد الذي يمتلكه جونسون للتهرّب من الأخبار "الرديئة" التي يسرّبها أعداؤه، وربما تكون هي الطريق الوحيد أيضاً للعودة إلى الزعامة والحكومة.