تثير بعض الأحكام القضائية بالبراءة في حق الناشطين ومعارضين في الفترة الأخيرة في الجزائر، وبعد أكثر من سنة من إيداعهم السجون، جدلاً لافتاً في الأوساط السياسية والحقوقية، بشأن دواعي سجن هؤلاء الناشطين كل هذه الفترة، في قضايا تخص تهديد الوحدة الوطنية والتآمر على الأمن العام، دون وجود الأدلة الدامغة التي تدينهم بهذه التهم الخطرة المنسوبة إليهم، تحت طائل المادة 87 مكرر، وما إذا كانت هذه الأحكام الأخيرة جزءاً من تدابير تهدئة غير معلنة من قبل السلطات السياسية.
أفرج القضاء الجزائري الليلة الماضية عن سبعة ناشطين في الحراك الشعبي، إثر حصولهم على حكم بالبراءة. لكن هذا الحكم جاء بعد قضائهم 18 شهراً في السجن بتهم التآمر على نظام الحكم وتهديد السلامة والوحدة الوطنية وتهم الإرهاب. واستفاد كل من صالح زرفة ولطفي قوري وحسان عوادي ومزهود حسان ومحمد تباينية وفوزي أونيسي وعيسى فيلالي من حكم تبرئة من التهم الخطرة المنسوبة إليهم، فضلاً عن ثلاثة متهمين آخرين في نفس القضية، كانوا في حالة سراح، تمت تبرئتهم أيضاً، بينهم زوجتا الناشطين صالح زرفة ومحمد تباينية.
عدد مهم من الناشطين الذين تمت ملاحقتهم في قضايا خطرة انتهت قضاياهم في كثير منها إلى أحكام بالبراءة أو أحكام مخففة لا ترقى إلى مستوى هذه التهم الخطرة
قبل ذلك، كان عدد من الناشطين قد حصلوا على البراءة، بعد قضاء أكثر من سنة في السجون، على غرار مفيدة خرشي التي كانت تواجه تهماً مماثلة، ومحمد حمالي الذي كان قد وافق على تسليمه من قبل السلطات الإسبانية قبل عام، والحبيب لعليلي الذي استلمته السلطات الجزائرية من لبنان بعد توقيفه في مطار بيروت. ووجهت لحمالي ولعليلي تهم "الانتماء إلى تنظيمات إرهابية"، وقضوا فترة سجن تجاوزت السنة، كما تمت تبرئة الصحافي والناشط الحقوقي حسان بوراس من تهم المساس بالوحدة الوطنية والإشادة بالأعمال الإرهابية، بعد أكثر من سنة من سجنه، على الرغم إدانته في جنح أخرى، كما تمت تبرئة الناشط حمو بومدين، ومناضلين اثنين آخرين بعد 18 شهراً من الحبس المؤقت في قضية الانتماء إلى "حركة الماك" الانفصالية التي تصنّفها السلطات في خانة "الإرهاب".
اللافت أن عدداً مهماً من الناشطين الذين تمت ملاحقتهم في قضايا خطرة، سواء بتهم تهديد الوحدة الوطنية والمساس بأمن الدولة، أو التحريض على التجمهر غير مسلح، والانتماء أو الإشادة بالأعمال الإرهابية، والتي على أساساها تم إيداعهم في السجون لفترة قبل محاكمتهم، انتهت قضاياهم في كثير منها إلى أحكام بالبراءة أو أحكام مخففة لا ترقى إلى مستوى هذه التهم الخطرة. وفيما يفسر البعض أحكام البراءة على أنها دليل صحوة قضائية ومؤشر على استقلالية القضاء الجزائري وعدم استجابته لضغوط النيابة العامة والسلطات، في القضايا ذات الطابع السياسي وقضايا الرأي، فإن طبيعة العلاقة في الجزائر بين السلطة السياسية والقضاء لا تقنع الكثيرين بوجود هامش كبير لدى القضاء.
وقال رئيس حزب جيل جديد (من الوسط) جيلالي سفيان، في تصريح صحافي اليوم: "تم الإفراج عن عشرات المعتقلين في الأسابيع الأخيرة، وهذا مصدر ارتياح. ما يجب أن يقال إنها نقطة جيدة للقضاة لإعادة تأهيل الأبرياء، ولكنها نقطة سيئة للإجراءات القانونية العمياء والمندفعة. أود أن أندد بسجن الأبرياء في وقت مبكر، فبعد أن تعرضوا لسلسلة من التهم الخطيرة للغاية وقبل كل شيء وضعوا في السجن، تبرئهم المحاكم؛ هذا يعني أن ثمة الكثير من التلاعب من جميع الجوانب، وبسبب ذلك الكثير من المواطنين أصيبوا بجروح عميقة من دون سبب، مثل بعض من اتهموا بالتواطؤ مع (الماك)". وانتقد جيلالي سفيان ما يعتبرها "مشكلة الحبس الاحتياطي، لأن الهدف من العدالة ليس تدمير حياة الناس، بل تطبيق القانون بشكل عادل".
تطرح في هذا السياق فرضية أن تكون الأحكام القضائية المخففة أو بالبراءة في حق عدد مهم من الناشطين والإفراج عنهم نتاج تلقف المؤسسات القضائية لإشارات سياسية، وضمن توجه السلطات نحو نهج تهدئة غير معلن وغلق تدريجي لملف ما يعرف بمعتقلي الرأي. وثمة رغبة لدى الرئيس تبون في معالجة هذا الملف بسبب ضغوط المنظمات الحقوقية الدولية إزاء الوضع الحقوقي في الجزائر، خاصة أن السلطة باتت في أريحية نسبية بسبب ضمور النشاط السياسي والمدني المعارض وانتهاء كل المؤشرات على عودة أي مستوى من مستويات الاحتجاج في الشارع.
ووصف حزب العمال (يساري) في بيانه الأخير صدور أحكام بالبراءة مؤخراً بأنه تطور "بالغ الأهمية "، واعتبره "إجراء تهدئة يجب أن يشمل كل مناضل سياسي ملاحق بتهمة الإرهاب، وبما يتطلب تسريع وتيرة مسار إطلاق سراح كافة السجناء السياسيين ومعتقلي الرأي ليشمل كافة المواطنات والمواطنين المعنيين بتطبيقات المادة 87 مكرّر من قانون العقوبات، التي أدّت إلى سجن ومتابعات قضائية في حق مئات المواطنات والمواطنين الذين مارسوا حقوقهم الديمقراطية". وأكد الحزب اليساري أن "الحكم بالبراءة على مناضلين سياسيين على المستوى القضائي يجب أن يترجم أيضاً على المستوى السياسي باحترام حرية الرأي، ووضع حد للتهجم على العمل السياسي والحريات الديمقراطية".
وتتضمن بالمادة 87 مكرر من قانون العقوبات، والتي تم إقرارها في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، نصًّا يعتبر فعلا إرهابيا "كل سعي بأي وسيلة الوصول إلى السلطة أو تغيير نظام الحكم بالطرق غير الدستورية أو التحريض على ذلك"، ما أتاح للنيابة العامة تكييف المواقف السياسية مع تهم الإرهاب وتهديد الوحدة وسلامة الوطن والتآمر على الدولة. وعلى الرغم من مطالبات محلية ودولية بإلغاء هذه المادة، فإن الحكومة الجزائرية كانت أبدت خلال الاستعراض الدوري الشامل الرابع لملف الجزائر في مجلس حقوق الإنسان المنعقد في بجنيف السويسرية، الشهر الماضي، تمسكاً بها، وقال وزير العدل الجزائري، عبد الرشيد طبي، إنها لا تتناقض مع الاتفاقيات الدولية ولوائح مجلس الأمن والمقررات الأممية.