تعد العريضة التي وقّع عليها عدد من كبار الحاخامات والتي تدعو إلى "فعل كل شيء" من أجل إحباط تشكيل الحكومة التي أعلن عنها زعيم المعارضة رئيس حزب "ييش عتيد" يئير لبيد تحولاً دراماتيكياً على صعيد الأزمة الداخلية السياسية التي تعيشها إسرائيل منذ أربع سنوات.
ويدور الحديث عن عدد من الحاخامات الذين يمثلون قيادة المرجعية الدينية للتيار الديني القومي، ولديهم تأثير طاغٍ على أتباع التيار الصهيوني الديني ويحظون باحترام أتباع التنظيمات الإرهابية اليهودية التي تنشط بشكل خاص في الضفة الغربية والقدس المحتلة؛ لا سيما "شارة ثمن" و"فتية التلال" و"لاهافا".
ومن أبرز الحاخامات الموقعين على العريضة: حاييم دروكمان وهو أبرز مرجعيات التيار الديني القومي، وشموئيل إلياهو حاخام مدينة صفد، وشلومو أفنير وهو من مرجعيات الإفتاء البارزة، وإسحاق بن شاحر.
وتعيد دعوة الحاخامات، ومعظمهم يشغلون مواقع رسمية في سلك "الدولة"، إلى الأذهان الدور الذي لعبه الحاخامات في التحريض على رئيس الحكومة الإسرائيلي السابق إسحاق رابين بسبب توقيعه على اتفاق أوسلو، وهو التحريض الذي قاد إلى اغتيال رابين نهاية 1995.
ودلّ مسار الأحداث على أن هذا التحريض قد آتى أكله في النهاية، حين صعد اليمين بقيادة بنيامين نتنياهو بعد اغتيال رابين إلى الحكم وتم وقف العمل بأوسلو عملياً. ولعل سابقة اغتيال رابين هي التي دفعت رئيس جهاز المخابرات الداخلية "الشاباك" نداف أرغمان إلى إصدار بيانه غير المسبوق السبت، والذي حذر فيه من مخاطر وقوع اغتيالات سياسية، على اعتبار أنه تم تحميل "الشاباك" جزءاً من المسؤولية عن الفشل في تأمين رابين في حينه.
لكن على الرغم من تحذيرات أرغمان، إلا أن أنصار التيار الديني القومي يمكن أن يترجموا دعوة الحاخامات لفعل "كل شيء" من أجل إحباط تشكيل الحكومة الجديدة، إلى أنماط عمل جديدة غير الاغتيالات السياسية، وإن كان اللجوء إليها يظل احتمالاً وارداً. فدعوة الحاخامات تمثل ضغطاً هائلاً على ممثلي التيار الديني القومي في حزب "يمينا"، الذي يفترض أن يقود رئيسه نفتالي بينت الحكومة الجديدة في عاميها الأولين. فبينت وعدد من نواب الحزب ينتمون إلى هذا التيار، وكانوا دائماً يتباهون بمدى ارتباطهم بالحاخامات، لاسيما الحاخام حاييم دروكمان، أهم مرجعيات التيار، والذي بادر إلى إصدار عريضة الحاخامات.
ونظراً لأن الاختبار الرئيسي لمدى تماسك أحزاب الحكومة الجديدة يتوقف على نتائج التصويت بالثقة عليها في الكنيست، الذي يمكن أن يتم نهاية الأسبوع الحالي، فقد يؤدي تراجع نائب واحد فقط عن دعم هذه الحكومة إلى الفشل في اجتياز اختبار الثقة.
وكثّف أنصار التيار الديني القومي بشكل خاص مضايقاتهم لنواب "يمينا"، وأشارت النائب إيديت سيلمان إلى أن المضايقات وصلت إلى حد مطاردتها بسيارات ومحاولة اقتحام منزلها فضلاً عن وابل من التهديدات الذي تتعرض له وعائلتها.
إلى جانب ذلك، فإن هناك في إسرائيل من يخشى أن يقوم أنصار اليمين باقتحام الكنيست وإفشال التصويت بالثقة على الحكومة الجديدة، عبر استنساخ أسلوب اليمين الأميركي في السادس من يناير/ كانون الثاني الماضي عندما قاموا باقتحام الكونغرس بناء على دعوة الرئيس السابق دونالد ترامب لإحباط توجه الكونغرس في ذلك الوقت للإعلان عن المرشح الديمقراطي جو بايدن كفائز في الانتخابات الرئاسية.
من ناحية ثانية، فإن دعوة الحاخامات يمكن أن تفسر بافتعال استفزازات ضد الفلسطينيين، لا سيما في القدس، بغية تفجير الأوضاع الأمنية بشكل يفضي إلى إحراج قادة حزبي "يمينا"، و"تكفاه حدشاه" الذي يرأسه جدعون ساعر. وتعد مسيرة الأعلام التي أعلنت المنظمات اليهودية المتطرفة عزمها على تنظيمها، الخميس المقبل، مثالاً على آليات العمل التي يمكن أن تسهم في تفجير الأوضاع الأمنية وتقلص من فرص الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة. ولا خلاف على أن انفجار الأوضاع في القدس يزيد من فرص اندلاع مواجهة جديدة بين المقاومة في قطاع غزة وإسرائيل، على غرار العدوان الأخير.
ويندرج في إطار أنماط العمل التي أقدم عليها أتباع التيار الديني القومي وأنصار بنيامين نتنياهو بشكل عام الإعلان عن تدشين المزيد من النقاط الاستيطانية على الأراضي الفلسطينية الخاصة في الضفة الغربية، وهذا سيولد مواطن احتكاك أخرى مع الفلسطينيين؛ فضلاً عن أنه يزيد من فرص إشعال الضفة الغربية.
نتنياهو ليس فقط يلتزم الصمت إزاء عريضة الحاخامات، بل إنه بدوره يصب الزيت على النار، وشبّه أمس بينت وزميلته إياليت شاكيد بأنهما يشبهان "عميلين يكشفان أسرار الدولة"؛ وهو ما يمثل بدوره تحريضاً كبيراً. اللافت أن قادة "الليكود" على الرغم من إدراكهم خطورة بيان رئيس "الشاباك" ومعرفتهم دور نتنياهو في إشعال الأوضاع من منطلق حساباته الشخصية، لا يحركون ساكناً، ويلوذ بعضهم بالصمت وآخر لا يتردد في إسناد نتنياهو.