بعد نحو ثلاثة أشهر من إخلاء سبيل أربعة من أقارب الناشط السياسي والحقوقي المصري - الأميركي محمد سلطان، عقب فوز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة، أعاد جهاز الأمن الوطني في وزارة الداخلية المصرية، الهجوم على عائلة سلطان، بمداهمة منازل ستة من أقاربه واعتقال إثنين، يوم الأحد الماضي. ولا يمكن قراءة هذه الخطوة بشكل منفصل عن عدد من مستجدات العلاقات بين القاهرة وواشنطن، ومحاولات النظام المصري أخذ زمام المبادرة في التعامل مع الضغوط الأميركية المتوقعة، والتي لم تُمارس حتى الآن.
وتعليقاً على المداهمة، قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية، نيد برايس، أول من أمس الثلاثاء، في تصريحات صحافية، إن الولايات المتحدة اطلعت على هذه القضية وهي "تدرسها" حالياً. وأضاف برايس: "نحن نأخذ على محمل الجدّ مزاعم الاعتقال أو الاحتجاز التعسفي"، مضيفاً "سنأخذ قِيَمنا معنا في أيّ علاقة لدينا في جميع أنحاء العالم. هذا يشمل شركاءنا الأمنيين الوثيقين. هذا يشمل مصر".
أعاد جهاز الأمن الوطني في وزارة الداخلية المصرية، الهجوم على عائلة المعارض محمد سلطان
وجاء ذلك بالتزامن مع صدور بيان من الخارجية الأميركية يعلن الموافقة على صفقة بيع أسلحة محتملة لصالح مصر بقيمة 197 مليون دولار، تتضمن صواريخ تكتيكية ذات هيكل جوي (رام) "بلوك 2" ومعدات ذات صلة. وبينما أشار بيان الوزارة، إلى موافقتها على هذه الصفقة لأن مصر "لا تزال شريكاً استراتيجياً مهمّاً في الشرق الأوسط"، فإن تمرير الصفقة سيكون رهن موافقة الكونغرس الذي سيتولى مراجعتها.
التفسير البسيط لما حدث مع عائلة سلطان هو أن النظام يحاول بالأدوات القديمة ذاتها، في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الضغط منفرداً على سلطان لإثنائه عن اتخاذ خطوات جديدة في دعواه القضائية المرفوعة حالياً في الولايات المتحدة ضد قيادات النظام المصري. وتهدف الدعوى إلى محاسبة هذه القيادات على ما وصفه بتعذيبه وانتهاك حقوقه خلال الفترة التي قضاها محبوساً في مصر، قبل تنازله عن الجنسية المصرية وترحيله إلى أميركا كمواطن أميركي في مايو/أيار 2015. وطالبت الدعوى بإصدار أمر تقييدي بحق رئيس الوزراء الأسبق حازم الببلاوي أثناء إقامته في واشنطن، لكن الأخير استطاع من خلال اتصالات دبلوماسية وسياسية في يوليو/تموز الماضي، الاستفادة من حصانته كأحد مدراء صندوق النقد الدولي، لمغادرة الأراضي الأميركية عائداً إلى مصر، قبل أن تعود الإدارة الجديدة لوزارة الخارجية في شهر يناير/كانون الثاني الماضي وتقرر وقف حصانة الببلاوي. وطلبت الإدارة من المحكمة المختصة - باعتبارها أحد الخصوم الذين يقاضيهم سلطان - إرجاء نظر الدعوى لحين دراستها.
لكن بوضع هذا الملف إلى جانب باقي الملفات التي كان النظام المصري يتصور، من خلال اتصالاته المباشرة وعبر وسطاء مع دائرة بايدن، أن تثيرها الإدارة الجديدة على الفور، يتبين أن خطوة التصعيد ضد أقارب سلطان تكمل سلسلة من خطوات أخرى سبق اتخاذها خلال الشهرين الأخيرين. وعلى رأس هذه الخطوات، النكوص عن التعهدات التي قطعها النظام للوسطاء الأميركيين والعواصم الغربية، وروّج لها محلياً عبر أدواته الإعلامية، للإفراج عن عدد من المعتقلين السياسيين البارزين، على رأسهم المدرجون على قائمة الإرهاب على ذمّة القضية المعروفة باسم "خلية الأمل". ويستمر النظام المصري في اعتقال جميع من تناولتهم بيانات العواصم الغربية والبرلمان الأوروبي، رغم مرور ثلاثة أسابيع بعد ذكرى ثورة 25 يناير، التي كان الوسطاء المصريون والأوروبيون لتنفيذ عمليات الإفراج يتحدثون عن أنه موعدها المحدد من قبل الأجهزة المصرية.
الخطوات شملت أيضاً توسيع عمليات الاعتقال ضد الطلّاب المصريين العائدين من الخارج، والذين كان آخرهم أحمد سمير سنطاوي، والإصرار على استمرار اعتقال الباحث باتريك جورج بعد إظهار مؤشرات إيجابية وتعهدات لوسطاء بانفراجة في حالته. ويأتي ذلك فضلاً عن استمرار منع نشطاء المبادرة المصرية للحقوق الشخصية - الذين اعتقلوا في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وأفرج عنهم مطلع ديسمبر/كانون الأول - من السفر والتحفظ على أموالهم.
وحصيلة هذه الخطوات أن تعامل النظام مع ملف حقوق الإنسان زاد سوءاً بعد تولي بايدن الرئاسة، لا العكس كما كان البعض يتكهن. وعاد النظام المصري للتوسع في استخدام أدواته القمعية في الشرطة والقضاء، مع تجاهل الإعلام المحلي لما يحدث. بل إن الخطاب الرسمي للنظام نفسه مضى قدماً في تحدي المفاهيم العالمية لحقوق الإنسان والمعارضة السياسية.
يحتفظ النظام بورقة المحبوسين السياسيين والجنائيين والممنوعين من السفر من حاملي الجنسية الأميركية
فبعدما كان وزير الخارجية سامح شكري قد حاول الشهر الماضي مغازلة الإدارة الأميركية الجديدة، قائلا إن "مصر تشارك إدارة بايدن نفس الاهتمام بأوضاع حقوق الإنسان"، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي نفسه أول من أمس، خلال افتتاح عدد من المشروعات، إن "حقوق الإنسان ليست سياسية فقط"، في إصرار على ترويج ما يسميه "حقوق الإنسان من المنظور المصري". وهذه الحقوق تتضمن الحقوق الأساسية الدستورية للمواطنين، من صحة وتعليم وغذاء وكساء ومسكن ووظيفة ومعاش. وأضاف السيسي أن المعارضة من أجل المعارضة غير مقبولة، وأنه يتعين على من يعارض "أن يعرف هو بيقول إيه"، وهو ما يعني بالطبع مزيداً من التضييق على الحريات السياسية والإعلامية المقيدة بصورة شبه كاملة.
مصادر دبلوماسية وحكومية مختلفة، تحدثت لـ"العربي الجديد" على مدى الأيام الستة الماضية، حول الوضع الحالي للعلاقات بين السيسي وبايدن، مشيرة إلى أن "الترقب يسيطر عليها، ولكن بشكل سلبي وليس إيجابيا". ويعني ذلك أن دائرة السيسي ترغب في اختبار مدى اهتمام إدارة بايدن بمصر، وطبيعة الملفات التي ستؤثر على العلاقات من الجوانب الحقوقية والسياسية، وكذلك الاستراتيجية والعسكرية. وبموجب رؤية تسيطر على دائرة السيسي حالياً، فالتعامل الأمثل يكون من خلال "احتفاظ النظام بأوراق يمكن التفاوض عليها مستقبلاً، وبحيث يكون التنازل عن أيّ منها غير مكلف كثيراً، مع تفضيل أن يقتصر التنازل على ما يستجد من قضايا أو حالات ليست ذات أولوية متقدمة على أجندة النظام".
وأوضحت المصادر أن بعض الشخصيات في دائرة السيسي، كانت تعتبر أن إخلاء سبيل نحو 600 من المتهمين المحبوسين (غير المشاهير) على ذمّة قضايا تظاهرات مختلفة، أبرزها القضيتان 1338 و1413 لسنة 2019 حصر أمن دولة عليا بشأن أحداث تظاهرات سبتمبر/أيلول 2019، في الفترة بين نوفمبر ويناير الماضيين، هي بادرة كافية لفتح نقاش مباشر، بدلاً من الاعتماد على الوسطاء. ويأتي ذلك استجابة لنصائح تلقتها مصر من وسطاء ديمقراطيين أميركيين خلال الاتصالات التي أجرتها القاهرة عبر قنوات مختلفة للتقرب من حملة بايدن قبيل فوزه. وتزامن ذلك مع موجة من الاتصالات الأوروبية الرسمية للإعراب عن القلق بسبب ارتفاع عدد المواطنين المعتقلين على خلفية الحراك الشعبي في سبتمبر 2020، سواء خلال مشاركتهم في التظاهرات أو في إطار الحملات الأمنية للتخويف والحد من اتساع الحراك. ودعت هذه الاتصالات النظام للمسارعة في الإفراج عن عدد من النشطاء السياسيين والحقوقيين ممن تمّ اعتقالهم قبيل وعقب أحداث سبتمبر 2019.
وكشفت المصادر أن من بين الأوراق التي يحتفظ بها النظام أيضاً، ويعتبرها "ثمينة" في "المقايضة" مع إدارة بايدن، ورقة المحبوسين السياسيين والجنائيين والممنوعين من السفر من حاملي الجنسية الأميركية، حيث يعتبر النظام أن من المناسب التنازل عنها حالة بحالة، أو على مراحل، حسب الأهمية السياسية، في فترات لاحقة عند ممارسة الضغوط.
وكان بايدن قد انتقد في ما مضى أوضاع المعتقلين في مصر، وهدّد خلال الحملة الانتخابية التي سبقت وصوله إلى البيت الأبيض بالتعامل بشكل مختلف مع السيسي حال فوزه بالرئاسة، بقوله "لا مزيد من الشيكات على بياض لديكتاتور ترامب المفضل".