كان واضحاً من الخطوط العريضة للتحالف الحكومي الحالي في إسرائيل، أنه سيعمل على إعادة تعريف مكانة المواطنين العرب في إسرائيل، المتدنية أصلاً، ولن يكتفي بالسياسات العنصرية التقليدية المعمول بها على مدار عقود، خصوصاً لجهة ترويض المطالب السياسية الجماعية للمواطنين العرب.
وعلى الرغم من انشغالها بخطتها لتقييد القضاء وإسقاطاتها، والتوتر الأمني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بادرت الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو إلى اتخاذ قرارات وقوانين عدة تمسّ بحقوق المواطنين العرب وتقييد مكانتهم السياسية.
وتستغل هذه الحكومة تفاقم الجريمة في المجتمع العربي، والتي راح ضحيتها منذ بداية العام الحالي قرابة 160 قتيلا، وهو ضعف عدد القتلى في العام الماضي، وتسرب الإجرام المنظم للسلطات المحلية العربية، وعدم مقدرة المجتمع العربي على التعامل مع هذا الواقع، لفرض معادلات جديدة على علاقات المجتمع العربي بمؤسسات الدولة، وتنفيذ خطوات وسياسات من شأنها أن تفرض قيوداً وزيادة الرقابة على المجتمع العربي عامة، وعلى السلطات المحلية خصوصاً، وتعمق المراقبة الأمنية والشرطية. بل أدّى ذلك إلى إحالة إدارة ملف المجتمع العربي إلى الأجهزة الأمنية.
تقترح حكومة الاحتلال توكيل جهاز الأمن العام بمكافحة الجريمة المنظمة في المجتمع العربي
فمنذ بداية شهر أغسطس/آب الحالي، اتخذت الحكومة الإسرائيلية قرارات عدة تندرج ضمن هذا التوجه: الأول فرض رقابة على ميزانيات ومصاريف السلطات المحلية العربية، والسماح للشرطة باستعمال منظومات مراقبة ذكية وحديثة على الهواتف تحت حجة مكافحة الجريمة، واقتراحات لتوكيل جهاز الأمن العام بمكافحة الجريمة المنظمة في المجتمع العربي، واقتراحات قوانين تمنح أدوات إضافية لأجهزة الأمن لمكافحة الجريمة المنظمة.
تقييد ورقابة على ميزانيات السلطات المحلية العربية
قرّر وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، بداية أغسطس، تجميد هبات موازنة مخصصة للسلطات المحلية العربية بقيمة 200 مليون شيكل (الدولار يعادل 3.8 شيكل)، أُقرت في الحكومة السابقة، بخلاف موقف وتحفظ وزير الداخلية موشيه أربيل. وقال وزير المالية إنه يفحص ويعيد النظر مجدداً فيما يجب فعله بهذه الميزانيات، وذلك "بحسب الأولويات". بينما كان موقف وزارة الداخلية أنه يجب تحويل هذه الأموال المستحقة، وأن عدم تحويل هبات الموازنة قد يعمق الأزمة المالية والاقتصادية في السلطات المحلية العربية.
أحد الادعاءات الرئيسية لوزير المالية الإسرائيلي لاتخاذ هذا القرار، كان أن هذه الميزانيات تتسرب في نهاية المطاف لعصابات الإجرام التي تسيطر على العديد من مناقصات السلطات المحلية العربية، وعلى قسم من الخدمات التي تقدمها للسكان في البلدات العربية. كما اعتبر أن هذه الميزانيات هي أموال سياسية أقرتها الحكومة السابقة بضغط من القائمة الموحدة (الحركة الإسلامية الجنوبية) التي كانت شريكة في حكومة نفتالي بينت – يئير لبيد.
وادعى سموتريتش أنه "لم ولن يكون هناك أي مبرر في العالم لتفضيل السلطات العربية بعد الآن ومنحها هي فقط هبات خاصة لا تحصل عليها السلطات اليهودية الضعيفة".
قرار سموتريتش قوبل بانتقادات داخل التحالف الحكومي ذاته، ومن قبل بعض الوزراء، ومن قبل عدد من الصحافيين الذين رأوا أنه قرار سياسي عنصري يأتي لمعاقبة السلطات المحلية العربية، وللانتقام من الحكومة السابقة، ويهدف إلى مغازلة قاعدة سموتريتش الانتخابية اليمينية الاستيطانية، وأن السلطات المحلية العربية تعاني أصلاً من إجحاف في الميزانيات والموارد. كما أشارت تقارير إعلامية إلى وجود إشكالية قانونية بمنع تحويل ميزانيات أُقرّت بقرار حكومة سابق، وأن أقصى ما يمكن أن يقوم به سموتريتش هو إعاقة وعرقلة التحويل.
تقرّر إقامة منظومة وآليات حكومية تراقب وتتابع تحويل وصرف ميزانيات السلطات المحلية العربية
رؤساء السلطات المحلية العربية، ممثلون باللجنة القُطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، رأوا في القرار إعلان حرب ضدهم، وأنه يأتي لحرمان البلدات العربية من ميزانيات مستحقة، وأن القرار يمكن أن يعطل قدراتهم على تزويد السكان بالخدمات. وإثر القرار، قرّرت اللجنة إعلان الإضراب والتظاهر أمام وزارة المالية الإسرائيلية في القدس المحتلة، وهدّدت بالإعلان عن إضراب عام في جهاز التعليم مع انطلاق العام الدراسي بداية سبتمبر/أيلول المقبل.
بعد خطوات الاحتجاج والإضراب التي قامت بها السلطات المحلية العربية، وعقد حكومة نتنياهو اجتماعات عدة بمشاركة مندوب عن السلطات المحلية العربية، واجتماع خاص بين سموتريتش ووزير الداخلية وعدد من رؤساء السلطات المحلية العربية وبمشاركة رئيس الشاباك (جهاز الأمن العام) رونين بار وقائد الشرطة الإسرائيلي يعقوب شبتاي، عقد في مقر وزارة الأمن في تل أبيب بتاريخ 28 أغسطس الحالي، تقرر العدول عن القرار وتحويل الميزانيات للسلطات المحلية العربية.
والأهم أنه تقرر، وبموافقة رؤساء السلطات المحلية العربية، إقامة منظومة وآليات حكومية تراقب وتتابع تحويل وصرف ميزانيات السلطات المحلية العربية، بغية ضمان عدم وصولها إلى منظمات الإجرام. بهذا المعنى، نجد أن سموتريتش نجح في فرض منظومة رقابة جديدة تتابع موضوع الميزانيات المخصصة للسلطات المحلية العربية، بمشاركة جهاز الأمن العام والشرطة.
في ما يبدو فإن هذا هو هدف سموتريتش الحقيقي، كونه يعرف أنه لا يستطيع منع تحويل الميزانيات بشكل مطلق، واستعمل منع تحويل الميزانيات لفرض هذه المنظومة.
الخطر في هذا القرار أنه يحول موضوع ميزانيات السلطات المحلية العربية لرقابة جهاز الأمن العام، وقد يمهد لتدخل جهاز الأمن العام في إدارة السلطات المحلية العربية، وتحويل قضية الميزانيات إلى مسألة أمنية وليس مدنية، بحجة منع تسرب ميزانيات وعطاءات للجريمة المنظمة، ما قد يحدّ من استقلالية السلطات المحلية العربية.
هذا يعيد مكانة السلطات المحلية العربية سنوات إلى الخلف، إلى فترة الحكم العسكري والرقابة الأمنية على عملها، بعدما نجحت خلال العقدين الأخيرين في انتزاع بعض الاستقلالية في عملها وإدارتها، وتحولت إلى لاعب سياسي مركزي، خصوصاً اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية.
ميزانيات وقوانين لزيادة الرقابة التكنولوجية على المجتمع الفلسطيني
في ذات الجلسة بين وزير المالية ورؤساء السلطات المحلية العربية والقيادات الأمنية، تقرر أيضاً تخصيص عشرات ملايين الشواكل لجهاز الشرطة، من أجل تمويل وسائل تكنولوجية جديدة بغية محاربة الجريمة في المجتمع العربي.
وفي توضيح لوزارة المالية بعد الاجتماع، جاء أن اللجنة الوزارية لمكافحة الجريمة والعنف في المجتمع العربي ستعمل على تحضير رزمة من القوانين لمنح صلاحيات فرض القانون الجنائي والاقتصادي تجاه منظمات الإجرام في المجتمع العربي. وستقوم وزارة المالية بتخصيص ملايين الشواكل لهذا الهدف، من ضمنها تمويل الأجهزة التكنولوجية الحديثة التي تحتاج إليها الشرطة لمكافحة الجريمة المنظمة وزيادة الأمن الشخصي في البلدات العربية.
وتأتي هذه القرارات، بالتزامن مع موافقة الحكومة الإسرائيلية على السماح للشرطة بإعادة استعمال برمجيات مراقبة وتنصّت حديثة ضد منظمات الإجرام في المجتمع العربي، بعدما توقف العمل بها العام الماضي، بقرار من المستشارة القضائية للحكومة على إثر تقارير صحافية أفادت بسوء استعمال الشرطة لهذه المنظومات. وتعتبر هذه الأدوات مخلّة بالخصوصية وحرية الأفراد في حال إساءة استعمالها. وقد عبّرت العديد من المنظمات الحقوقية عن خشيتها من أن تستعمل هذه المنظومات والبرمجيات للمراقبة السياسية ولأغراض غير قانونية، خصوصاً تجاه المجتمع العربي.
وافقت حكومة الاحتلال على السماح للشرطة بإعادة استعمال برمجيات مراقبة وتنصّت حديثة ضد منظمات الإجرام في المجتمع العربي
رافق هذه القرارات نقاش داخل الحكومة الإسرائيلية حول إشراك "الشاباك" في مكافحة الجريمة المنظمة في المجتمع العربي، ورفض الجهاز لهذا الأمر لغاية الآن والاكتفاء بمعالجة ملفات تستهدف رموز الحكم، مثل استهداف رؤساء سلطات محلية عربية أو مؤسسات الدولة ومناقصات حكومية، بادعاء أن جهاز الأمن غير مخول وفق القانون لمكافحة الجريمة داخل الدولة، وبسبب خشيته من كشف أساليب وأدوات عمله في القضايا الأمنية.
الخطوط العريضة واتفاقيات التحالف الحكومي، بالإضافة إلى تصريحات الوزراء والسياسات على أرض الواقع، تجعلنا نشكك في نوايا الحكومة تجاه المجتمع العربي، ونفترض أن إضافة أدوات الرقابة الجديدة المقترحة، ومراقبة ميزانيات السلطات المحلية، وفرض منظومات لمكافحة الجريمة المنظمة، والمطالبة بإدخال الشاباك لمكافحة الجريمة المنظمة التي غضّت سلطة الاحتلال النظر عن تفاقمها في العقد الأخير، كلّها ليست إجراءات بريئة ولا تهدف فعلاً لمحاربة الجريمة المنظمة ولا خدمة مصالح المجتمع العربي.
فهي نفس الحكومة التي تتواطأ مع الجريمة لتفتيت المجتمع العربي، ونفس الحكومة التي لم ترد على ادعاء القائد العام للشرطة بأن "القتل لدى المجتمع العربي جزء من الثقافة، ودعهم يقتلون بعضهم البعض"، وهي نفس الحكومة التي تسن قوانين لمنع سكن المواطنين العرب في البلدات اليهودية الصغيرة، ونفس الحكومة التي تريد تعميق الهوية اليهودية والقومية لإسرائيل، وترفض أصلاً الاعتراف بوجود شعب فلسطيني.
تقوم الحكومة الإسرائيلية بخطوات لتفتيت المجتمع العربي، وإفقار المجتمع العربي، وترمي إلى زيادة تعلقه الاقتصادي بالدولة. وهي تريد اليوم أن تربط أمن المواطنين العرب الشخصي بتدخل أجهزة الاستخبارات والأمن الإسرائيلية. أي أنها تريد من المواطنين العرب الاستجداء من حكومة إسرائيل بإدخال جهاز الأمن العام للبلدات العربية، بغية توفير الحماية من منظمات الجريمة ولضمان الميزانيات الحكومية. بذلك تحول قضايا المجتمع العربي إلى قضايا أمنية يتابعها جهاز الأمن العام (الشاباك)، بدل أن تكون حقوقا مدنية طبيعية لكل مواطن، وفي ذلك تغيير جوهري في تعامل إسرائيل مع المواطنين العرب.
الحكومة الحالية لا تسعى فقط إلى حسم ملف الاحتلال، وحسم ملف طابع وهوية دولة إسرائيل، بل تريد أيضاً حسم ملف مكانة المواطنين العرب.