لم ينتظر رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد كثيراً قبل أن يعاود إطلاق المعركة ضد "جبهة تحرير شعب تيغراي" المتمردة في إقليم تيغراي بشمال البلاد. فبعد أسبوع واحد من توليه رئاسة الحكومة لولاية جديدة من خمس سنوات ووعده بإطلاق "حوار وطني"، وانتهاء موسم الأمطار في البلاد، كانت الأنباء تتوالى عن شنّ الجيش الإثيوبي هجوماً "على كل الجبهات" ضد هذه الجبهة، التي تخوض الحكومة الاتحادية حرباً مع قواتها منذ 4 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي، متجاهلة أي دعوات للوساطة، ورافضة الإنصات للمناشدات الدولية الداعية لتسوية النزاع الذي يهدد استقرار ثاني أكبر بلد في أفريقيا لجهة عدد السكان ومنطقة القرن الأفريقي برمتها، وكانت آثاره كارثية خصوصاً من الناحية الإنسانية. ويبدو أن الجيش يسعى مجدداً لأن تكون له اليد العليا في الصراع المسلح المتصاعد مع الجبهة، لا سيما بعدما بدت الأخيرة بمثابة المنتصرة، خصوصاً منذ عودتها للإقليم في يونيو/ حزيران الماضي وبثها مشاهد اعتبرها كثيرون "مذلة" لآلاف الجنود المعتقلين. لا بل إن الجبهة استعادت عافيتها سريعاً كما ظهر، ووسّعت هجماتها نحو إقليمي أمهرة وعفر المجاورين، في سعي لفك الحصار عن إقليم تيغراي وتأمينه، وتضييق الخناق على الحكومة في المنطقة.
الرد العسكري وحده لن يكون كافياً لمعالجة أزمة تيغراي المتصاعدة
في هذه الأثناء، تتصاعد المخاوف مجدداً مما يمكن أن ينتج عن مواجهات جديدة واسعة النطاق ستعمّق الأزمة، فيما تثار الأسئلة عما يمكن أن تحققه الحكومة داخلياً من العودة للانخراط في الصراع المسلح مع "جبهة تيغراي" التي تعدّ نقطة قوتها الأساسية الدعم العرقي والشعبي الذي تتمتع به في الإقليم، فضلاً عما إذا كان يمكن لأبي أحمد، الذي مرّ عامين على نيله جائزة نوبل للسلام، من خلال ذلك تحقيق هدفه بتوحيد إثيوبيا تحت سلطة حكومته بعيداً عن العامل العرقي.
وتظهر الحقائق على الأرض أن الرد العسكري وحده لن يكون كافياً لمعالجة أزمة تيغراي المتصاعدة وآثارها، خصوصاً إذا ما أُخذت بعين الاعتبار المسألة الإثنية والعرقية التي تؤدي دوراً أساسياً في هذا الإطار. فمنذ اندلاع الحرب قبل ما يقرب من عام في الإقليم، تعزز الشعور الإثني في إثيوبيا أكثر فأكثر، وليس أدل على ذلك من العنف القائم على أساس العرق في أقاليم عفر وأمهرة وأوروميا وبني شنقول وغيرها. وهو ما يشير إلى أن محاولات أبي أحمد لجمع البلاد تحت سيطرة حكومته وفق إيديولوجية توحيد إثيوبيا بعيداً عن الهوية العرقية، محكومة بالفشل، على الأقل في المدى القريب، خصوصاً إذا ما لجأ للخيار العسكري مع المناهضين له. وبينما كان من أهم وعود أبي أحمد، في خطاب تنصيبه رئيساً للوزراء للمرة الثانية قبل أسبوع، هو عقد حوار وطني "من أجل تضييق خلافاتنا"، وهو ما يبدو أنه لتهدئة المعارضين المحليين والمنتقدين الدوليين، واعترافاً ضمنياً من قبله بأن إثيوبيا تمر في مرحلة حساسة ومحفوفة بالمخاطر، لكن لا شيء يشير إلى أن الحوار سيؤدي إلى الهدوء والوصول إلى دولة إثيوبية موحدة بعيداً عن نظام "الفيدرالية العرقية"، خصوصاً إذا ما تم استبعاد أقوى معارضي الحكومة من هذا الحوار، كما هو مرجح إلى حد كبير: جبهة تحرير تيغراي وجماعة "أونق شني" في إقليم أوروميا بوسط البلاد، واللتان تصنفهما أديس أبابا منظمتين إرهابيتين.
وقالت "جبهة تحرير شعب تيغراي"، أول من أمس الإثنين، إن الجيش الإثيوبي أطلق هجمات برية "على كل الجبهات" بما يشمل منطقة أمهرة في شمال البلاد. ولم يؤكد مكتب أبي أحمد صراحة هذه المعلومات التي تأتي في أعقاب تكهّنات واسعة النطاق بأن هجوماً عسكرياً كبيراً بات وشيكاً، لكنه أعلن أن الحكومة ملزمة بحماية المواطنين من "جبهة تحرير شعب تيغراي".
وجاء في بيان للجبهة، التي كانت تحكم المنطقة في السابق، أن "تهديد أبي أحمد بشن هجوم لغزو تيغراي مجدداً بدأ تنفيذه رسمياً على الرغم من الدعوات المستمرة من المجتمع الدولي وحكومة تيغراي لإيجاد حل سلمي للأزمة". وتابعت الجبهة، في بيانها الذي نقلته وكالة "فرانس برس"، أنه "في صبيحة 11 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، أطلق الجيش الإثيوبي بمؤازرة قوات من أمهرة هجمات منسّقة على كل الجبهات". وأشار البيان إلى أنه "بالإضافة إلى مئات الآلاف من المقاتلين النظاميين وغير النظاميين، تحظى قوات الإبادة الجماعية هذه بإسناد من المدفعية الثقيلة والدبابات والصواريخ والطائرات المسيّرة والمقاتلات، بما لا يترك مجالاً للشك بوجود نية إبادة لديها".
جبهة تيغراي: الجيش الإثيوبي أطلق هجمات برية على كل الجبهات
وقال المتحدث باسم الجبهة غيتاشو ريدا، بحسب ما نقلت عنه وكالتا "فرانس برس" و"رويترز"، إنه "على الرغم من الهجوم الجديد، لم تكن القوات قد وصلت بعد إلى تيغراي صباح الإثنين". وأوضح أن هناك قتالاً في بلدات ويجلتينا وورجيسا وهارو في إقليم أمهرة. وأضاف أن الجبهة لا علم لها بانخراط القوات الإريترية التي سبق أن دعمت الجيش الإثيوبي، في الحرب التي استمرت 11 شهراً.
وتؤكد حكومة أبي أحمد أن العمليات العسكرية في الشمال تستهدف "جبهة تحرير شعب تيغراي"، وليس السكان عموماً. وفي السياق، قالت المتحدثة باسم رئيس الوزراء بيليني سيوم إن "حكومة إثيوبيا من مسؤوليتها حماية مواطنيها في كل أنحاء البلاد من أي أعمال إرهابية". وتابعت أن "حكومة إثيوبيا ستواصل التصدي لأعمال التدمير والعنف والقتل التي تمارسها جبهة تحرير شعب تيغراي في منطقة أمهرة ومناطق أخرى".
وفي نهاية الأسبوع، أبلغت مصادر إغاثية وأخرى تابعة للمتمردين وكالة "فرانس برس"، بأن القوات الإثيوبية وجهت ضربات برية وجوية في إطار مرحلة أولى من الهجوم الذي في حال تأكد المضي به فإنه سيكون قد أطلق بعد أسبوع واحد فقط من تولي أبي أحمد رئاسة الحكومة لولاية جديدة من خمس سنوات.
وكانت الحرب قد اندلعت في 4 نوفمبر الماضي، عندما أرسل أبي أحمد جنوداً إلى تيغراي لإزاحة "جبهة تحرير شعب تيغراي"، في خطوة قال رئيس الوزراء إنها تأتي رداً على هجمات للجبهة على معسكرات للجيش الفيدرالي. وفي 28 من الشهر نفسه، أعلنت إثيوبيا انتهاء عملية "إنفاذ للقانون" بالسيطرة على الإقليم بالكامل.
وعلى الرغم من سيطرة القوات الحكومية بسرعة على مدن وبلدات تيغراي، استعادت الجبهة السيطرة على معظم مناطق الإقليم، ومنها العاصمة ميكيلي، بحلول أواخر يونيو/ حزيران الماضي، وأعلن أبي أحمد لاحقاً وقفاً أحادياً لإطلاق النار. لكن مذّاك امتدت المعارك إلى إقليمي أمهرة وعفر المجاورين، وتسببت بما وصفته الأمم المتحدة بـ"أزمة إنسانية هائلة"، فيما يواجه مئات آلاف الأشخاص ظروفاً أشبه بالمجاعة.
كسر الجيش الإثيوبي في الفترة الأخيرة سلسلة انتصارات حققها متمردو جبهة تيغراي
لكن الجيش الإثيوبي كسر في الفترة الأخيرة سلسلة انتصارات حققها متمردو جبهة تيغراي وحلفاؤهم على جبهات عدة، وأوقف زحفهم نحو مدن وطرق استراتيجية، كان سقوطها سيؤدي إلى زعزعة نظام أبي أحمد في أديس أبابا، بحسب وكالة "الأناضول".
واستعاد الجيش الإثيوبي خلال الأسابيع الأخيرة أغلب المناطق التي استولى عليها متمردو تيغراي في إقليم عفر. كما استعاد الجيش مدعوماً بمليشيات محلية، قرى وبلدات عدة في إقليم أمهرة، إلا أنه أخفق في السيطرة على مدينة لالبيلا، التاريخية والمقدسة لدى المسيحيين، وتراجع قليلاً عقب هجوم مضاد للمتمردين، تمكنوا خلاله من فك الحصار على لالبيلا، حسبما أفادت به وسائل إعلام محلية ودولية.
وخلال أغسطس/ آب الماضي، تمكن مقاتلو جبهة تيغراي من التقدم عبر ستة محاور على الأقل، وكان هدفهم الرئيسي فك الحصار عن الإقليم. وسعى متمردو تيغراي لقطع الطريق الدولي مع جيبوتي على مستوى إقليم عفر (شرق تيغراي)، بهدف تسهيل حصولهم على المساعدات الدولية، وقطع الطريق الوحيد للتجارة الخارجية الإثيوبية عبر ميناء جيبوتي، لخنق حكومة أبي أحمد. كما حاول المتمردون الوصول إلى مدينة ديسي، ثاني أكبر مدينة في إقليم أمهرة، والواقعة على الطريق الرئيسي المؤدي إلى العاصمة أديس أبابا جنوباً، فضلاً عن تقدمهم غرباً نحو مفترق الطرق الفاصل بين مدينة غوندر (شمالي أمهرة)، ومدينة بحر دار، عاصمة أمهرة، بهدف السيطرة على مقر المنطقة العسكرية الغربية في غوندر، ومحاصرة القوات الحكومية في غرب تيغراي، ووقف الإمدادات الآتية من بحر دار نحو جبهات القتال الغربية.
إلا أن الجيش الاتحادي، وبعد إعلانه النفير العام، تمكن من إلحاق خسائر قاسية بالمتمردين، ما أوقف زحفهم، وحرمهم من الوصول إلى الطريق الدولي نحو جيبوتي، وأنقذ مدن ديسي وغوندر وبحر دار من السقوط بأيدي المتمردين. ليس ذلك فقط، إذ استعاد الجيش الاتحادي ومليشيات أمهرة معظم مناطق إقليم عفر، باستثناء جيب صغير محاذ لإقليم تيغراي.
شددت القوات الإثيوبية حصارها على الإقليم
ومع استمرار الحرب في تيغراي طيلة 11 شهراً، فإن الوضع الإنساني في الإقليم يزداد سوءاً. وعبرت الأمم المتحدة في أكثر من مناسبة أخيراً، عن مخاوفها من حصول مجاعة جماعية تطاول سكان الإقليم. بالموازاة مع ذلك، شددت القوات الإثيوبية حصارها على الإقليم، بل وطردت سبعة مسؤولين في وكالات تابعة للأمم المتحدة، بسبب ما اعتبرته تدخلاً في شؤونها الداخلية، ما يضاعف المخاوف الدولية من وقوع مأساة إنسانية مع استمرار القتال وصعوبة إيصال المساعدات لتيغراي. وهددت الولايات المتحدة الأميركية بفرض عقوبات على أديس أبابا، بعد طردها المسؤولين الأمميين السبعة.
ويبدو أن الحرب لا تؤثر فقط على الوضع الإنساني، إذ أعلنت أديس أبابا عن إغلاق سفاراتها وقنصلياتها وتقليص موظفيها فيها في أكثر من 30 دولة بسبب ضائقتها المالية. وكلفت الحرب في تيغراي إثيوبيا أكثر من مليار دولار، بحسب تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، نهاية أغسطس الماضي. وإطالة عمر الحرب من شأنها استنزاف القدرات الاقتصادية للبلاد، التي تعاني كغيرها من بلدان العالم من آثار كارثية لجائحة كورونا، على أكثر من صعيد.