يتواصل غياب المحكمة الدستورية في تونس من دون تفسير، على الرغم من تمرير الرئيس قيس سعيّد دستوراً جديداً منذ منتصف العام الماضي، من دون أي رقابة دستورية على التشريعات والمراسيم في البلاد.
ويتساءل التونسيون عن عدم تركيز المحكمة الدستورية إلى اليوم، على الرغم من دخول الدستور الجديد حيز النفاذ بعد استفتاء 25 يوليو/تموز 2022، والذي ينص على تشكيل محكمة دستورية من قضاة معينين من قبل رئيس الجمهورية.
ويُعد غياب المحكمة الدستورية أحد أسباب تمكن سعيّد من التفرد بالسلطة، وتعليق العمل بالدستور في 25 يوليو 2021، وإقراره حل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين (محكمة دستورية وقتية منذ 2014).
الصغير الزكراوي: عدم إرساء المحكمة يعود لرغبة سعيّد عدم مراقبة الأوامر والمراسيم التي يصدرها
ويعيب سعيّد على البرلمانات المتعاقبة منذ 2014 فشلها في تشكيل المحكمة الدستورية بسبب الخلافات الحزبية والمحاصصة السياسية بين الكتل البرلمانية. وحتى إنه رفض توقيع تعديلات قانون المحكمة الدستورية التي سنّها برلمان 2019، بهدف تجاوز عقبات انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية بخفض عدد الأصوات المطلوبة وقتها.
محكمة دستورية منزوعة الصلاحيات
ويرى خبراء القانون الدستوري أن المحكمة الدستورية في دستور 2022 ستكون هيئة موالية منزوعة الصلاحيات، وغير قادرة على فرض علوية الدستور والتصدي لأي انحراف بالسلطة.
وتتكون المحكمة من قضاة فقط، وهو ما يتعارض مع ما هو موجود في الدساتير المقارنة في الدول الديمقراطية، حيث تتألف من رجال قانون نظريين، وجامعيين مختصين بالقانون العام والقانون الدستوري، ورجال قانون عمليين من قضاة ومحامين.
وينص الفصل 125 من الدستور الجديد على أنّ "المحكمة الدستورية تتركب (تتألف) من تسعة أعضاء، ثلثهم الأول من أقدم رؤساء الدوائر في محكمة التعقيب، والثلث الثاني من أقدم رؤساء الدوائر التعقيبية في المحكمة الإدارية، والثلث الثالث والأخير من أقدم أعضاء محكمة المحاسبات. ويَنتخب أعضاء المحكمة الدستورية من بينهم رئيساً لها، طبقاً لما يضبطه القانون".
ويحصر الدستور الجديد صلاحيات المحكمة الدستورية في "الرقابة على دستورية القوانين، على عكس المحاكم الدستورية في القوانين المقارنة، التي تمثل مراقبة دستورية القوانين فيها جزءاً من العدالة الدستورية، عبر مراقبة بقية السلطات، وفرض احترامها للدستور".
ويمنح الدستور الجديد سعيّد اختصاصاً لم يخوّله دستور 2014 للمحكمة الدستورية، حيث سحب من رئيس البرلمان، في حالات الشغور النهائي في رئاسة الجمهورية، نيابة الرئيس وقتياً، حتى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، ومنحها لرئيس المحكمة الدستورية.
من يعوض غياب الرئيس في تونس؟
ويعتبر أستاذ القانون الدستوري الصغير الزكراوي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "رئيس الجمهورية كان عليه، وكان بإمكانه، أن يصدر مرسوماً لتنظيم المحكمة الدستورية، لأن تركيبتها منصوص عليها في الدستور".
ويحذر من "وجود فراغ اليوم، باعتبار أن رئيس المحكمة الدستورية هو الذي يعوض رئيس الجمهورية في صورة العجز، أو الوفاة، أو أزمة صحية". ويشدد على أن "هناك فراغاً في صورة وقوع حادث ما للرئيس، وكان عليه من هذا المنطلق أن يسارع في إحداث محكمة دستورية".
ويفسّر الزكراوي التأخير بأنه "من الممكن أن يكون الرئيس بصدد انتظار انطلاق عمل البرلمان لإصدار قانون أساسي يُنظم سير المحكمة الدستورية، باعتبار أنه لا يمكن تنظيم هذه المحكمة بمرسوم، لكنه نظم المجلس الأعلى للقضاء بمرسوم لتفادي الفراغ، وبالتالي كان بإمكانه أن يسارع بإحداثها، باعتبار أن تركيبتها قضائية واضحة وعبر التعيين".
ويوضح أن "لرئيس الجمهورية حساباته الخاصة، وهو يريد أن يصدر نصوصاً من دون أدنى رقابة، لأن النصوص والمراسيم التي أصدرها فيها أحكام غير دستورية".
مبروك كورشيد: الخطورة تكمن في وجود فراغ دستوري في حالة الشغور برئاسة الجمهورية
ويشدد الزكراوي على أن "إحداث المحكمة الدستورية قرار سياسي بامتياز، ومسألة إرادة سياسية، وعدم رغبة رئيس الجمهورية في إرسائها خلال الفترة الاستثنائية حتى لا تتمكن من مراقبة النصوص التي يصدرها من أوامر ومراسيم والتي فيها بعض أحكام لادستورية".
ويتابع: "رئيس الجمهورية يريد أن يشرع من دون أدنى رقابة"، مشيراً إلى أن "الأخطر هو حالة الفراغ، فلا يمكن لرئيسة الحكومة أن تعوضه، وكان على رئيس الجمهورية من منطلق المسؤولية أن ينزلها إلى أرض الواقع، ولا يرتكب نفس خطأ الحكومات السابقة، وبالتالي هي مسألة سياسية بامتياز".
ويفيد الزكراوي بأن حالة الاستثناء انتهت ببدء أعمال البرلمان الجديد، "ولكن حالة الاستثناء بوجود أزمات اقتصادية وسياسية، وفي حالة وجود دستور لا يفرق بين السلطات ولا يحدث توازناً بينها، فإننا في حالة استثناء دائمة عملياً".
وسبق أن اعتبر حزب "الراية الوطنية"، في بيان، أن عدم إرساء المحكمة الدستورية "يمثل مواصلة لنهج الانفراد بالسلطة من دون رقيب أو حسيب، الذي انتهجه رئيس الجمهورية بعد مرور أشهر من تمرير دستوره"، وذلك "حتى تقوم بواجبها في منع التغول الحاصل على إنفاذ القانون".
لا جهة تظلّم قانونية
ويؤكد رئيس "الراية الوطنية" والوزير الأسبق لأملاك الدولة والشؤون العقارية مبروك كورشيد، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "خطورة عدم تركيز المحكمة الدستورية هي عدم وجود جهة تظلّم قانونية، يمكن الالتجاء إليها عند وقوع خروقات، سواء من البرلمان أو من رئيس الجمهورية، وهذه تعد مسألة ضرورية في أي ديمقراطية".
ويذكر كورشيد أنه "سابقاً طالبنا رئيس الجمهورية بالمحكمة الدستورية، واليوم بعد تنصيب البرلمان أصبحت المسألة موكلة إليه، وعليه أن يكون أول عمل يقوم به".
ويضيف أنه "علاوة على مسألة الطعن في دستورية القوانين والقرارات، فإن الخطورة تكمن في وجود فراغ دستوري في حالات الفراغ والشغور في رئاسة الجمهورية، فإن رئيس المحكمة الدستورية هو من يحل ذلك، ولا يمكن تجاوز هذه الأزمة وهو ما يقود البلاد إلى الفراغ".
ويتابع بأن "المحكمة الدستورية هي اللبنة في بناء أي ديمقراطية"، مرجحاً أن "النيّة لا تتجه لإحداث المحكمة الدستورية لا اليوم ولا غداً". ويشدد على أن "الإرادة السياسية واضحة، فلم يكن إحداث المحكمة الدستورية رغبة من حكموا في السابق ولا من يحكم حالياً".
المعارضة لا تعترف بالمحكمة الدستورية
من جانبها، تؤكد غالبية قوى المعارضة أنها لا تعترف بهذه المحكمة الدستورية ولا تنتظر إحداثها، باعتبار عدم اعترافها بدستور منبثق عن مسار الانقلاب، وجميع مؤسساته بما فيها البرلمان الجديد، بحسب تصريحات المعارضين.
ويعتبر نائب رئيس حزب "الإنجاز والعمل" أحمد النفاتي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "المحكمة الدستورية تُعتبر أهم لبنة من لبنات البناء الدستوري الذي لم يُستكمل منذ الثورة.
ويقول إن "قيس سعيّد، شأنه شأن بقية الحاكمين الذين تقاعسوا في تركيزها، يخشى أن توجد سلطة تنافس صلاحياته، على اعتبار أن الوظيفة العليا للمحكمة الدستورية هي تفسير وتأويل القوانين. في حين أن الرئيس احتكر التشريع والتفسير والتأويل، ولن يقبل بمن ينافسه في هذه الصلاحية المهمة، التي أسس من خلالها سردية حكم بأكملها، ولن يذهب في اتجاه تركيزها، بل سيضع كل العراقيل أمام إحداثها. وبالتالي، تصبح هناك أسباب ذاتية واضحة متعلقة بمسار سعيّد تحول دون تركيز المحكمة الدستورية".
ويتابع: "أما موضوع الفاعلية المرجوة من تركيز هذه المحكمة، أو غيرها من المؤسسات القائمة على روزنامة سعيّد، فهي بالفعل ستكون فاقدة لأي شرعية، باعتبارها مبنية على لحظة لادستورية، وهي لحظة 25 يوليو 2021".
ويشدد النفاتي على أن "الحديث عن تركيز المؤسسات في ظل نظام غير ديمقراطي وغير دستوري هو من قبيل إقامة الحجة، وليس من باب الاعتراف بمخرجات الانقلاب وانتظار إصلاحات من هذا المسار. فغياب المؤسسات الشرعية والدستورية يحوّل مخاض الانتقال الديمقراطي الذي تعيشه تونس منذ ثورة 14 يناير/كانون الثاني إلى مخاض انتقال ديكتاتوري منذ لحظة انقلاب 25 يوليو 2021".