تغيّر الرئيس... متى وكيف تتغير الولايات المتحدة؟

20 يناير 2021
بايدن بعد أدائه اليمين الدستورية اليوم (Getty)
+ الخط -

بعد حبس أنفاس، وفي ظلّ حصار أمني لم تعرفه واشنطن لقطع الطريق على تكرار هجمة الكونغرس، حلف الرئيس جو بايدن اليمين الدستورية ظهيرة اليوم بحضور نائب الرئيس السابق، مايك بانس، ورجال الكونغرس، ليصبح الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة.

وبذلك مرت المناسبة من دون عنف خيّم شبحه على العاصمة منذ أسبوعين. لكنها كانت، رغم تنوع مجرياتها، يتيمة اضطراراً؛ في احتفاليتها كما في حضورها وشكلياتها مقارنة مع السوابق. الاعتيادي الوحيد فيها تقريباً، أنها جرت في نفس المكان خارج مبنى الكونغرس وليس داخله، وذلك بناء على إصرار بايدن. لكن لم يشارك الرئيس المغادر فيها، ولم يستقبل بايدن في البيت الأبيض قبل التسلّم جرياً على العادة، ولم يكن الضيوف المدعوون بالحجم المألوف، ولم يقم حفل غداء في الكونغرس بعد الاحتفال، كما غابت الحشود في الساحة المقابلة كما جرت العادة للترحيب بالرئيس الجديد، ولم يترجل هذا الأخير من سيارته في منتصف الطريق بين الكونغرس والبيت الأبيض ليمشي المسافة المتبقة وفق ما درج عليه التقليد. كل ذلك لم يكن طبيعيًا. جو الكآبة والفزع طغى على حالة الانفراج المفترض أن ينطوي عليها عادة هذا التغيير. طبعاً كورونا كان لها دور في إخراج الاحتفال بصورة منقوصة. لكن الهم الأمني الترامبي كانت له اليد الطولى في فرض تحجيمه.

الانشقاق الجمهوري عن الرئيس السابق يعزز، ولو أنه متأخر، من وضع بايدن في لحظة تحتاج فيها واشنطن إلى المزيد من التقارب لكبح جماح تيار القوميين البيض الذي استقوى بترامب

 

الآن تغيّر سيد البيت الأبيض ودخلت واشنطن مرحلة بايدن. انتهى زمن ترامب لكن ظاهرته ليست بالضرورة محكومة بالتلاشي. وعد الأخير بلعب دور ما في المستقبل، حسب ما ألمح في خطابه الوداعي بالفيديو مساء أمس، عندما قال إن الحركة السياسية التي أطلقها قبل أربع سنوات "ليست سوى البداية ". وحرص على مخاطبة الأميركيين بليونة على غير عادته، إذ أعرب عن "أفضل التمنيات " للإدارة القادمة من دون أن يذكر بايدن بالاسم، لافتاً إلى أن الهجوم الذي تعرّض له الكونغرس" لا يمكن التسامح معه". نبرة تكررت في كلمته في قاعدة "أندروز" الجوية بقرب واشنطن قبل مغادرته إلى ولاية فلوريدا، حين تمنّى لخلَفه، من غير ذكر اسمه، "النجاح وحسن الحظ"، واعداً أنصاره بالعودة "بصورة أو بأخرى" إلى الساحة. لغة مغايرة لقاموسه بعدما اكتوى بخطيئة 6/ 1. وكأنه أراد ترك خط الرجعة مفتوحاً. ومن هنا يمكن تفسير جنوح عدد متزايد من الجمهوريين (17 أو أكثر) يتقدمهم زعيمهم في مجلس الشيوخ، السناتور ميتش ماكونيل – الذي رافق بايدن صباح اليوم إلى الكنيسة وقاطع توديع ترامب مع غيره من الجمهوريين – نحو التصويت لعزل الرئيس ترامب عندما تجرى محاكمته أمام المجلس، وبما يفتح المجال أمام صدور قرار آخر بأكثرية بسيطة (51) يمنع ترامب من شغل أي منصب رسمي بعد الآن.

 

هذا الانشقاق الجمهوري عن الرئيس السابق يعزز، ولو أنه متأخر، من وضع بايدن في لحظة تحتاج فيها واشنطن إلى المزيد من التقارب لكبح جماح تيار القوميين البيض الذي استقوى بترامب حد الاقتحام الانقلابي على السلطة. الرئيس الجديد يحتاج أيضاً إلى أي دعم جمهوري ولو رمزياً أو بالحد الأدنى، سواء في الكونغرس أو في حدود العمل على تبريد حرارة الخطاب السياسي العام. مع انتقال السلطة، انتقلت إليه جبال من المشكلات، الداخلية والخارجية. من كورونا إلى الشلل الاقتصادي والجرح العنصري وانتهاء بخطر القوميين البيض وتلويحهم بالتمرد المسلح. وهذا الأخير يبقى التحدي الأكبر. خاصة إذا ما عاد ترامب لاحقاً إلى قيادته. فالخميرة العنصرية موجودة منذ ما قبل قيام الجمهورية. وكذلك مليشياتها المسلحة. برز حضورها على السطح في أكثر من مرة وأخذ أكثر من تعبير عنيف. في عشرينيات القرن الماضي، حمل لواءها تنظيم "كلو كلاكس كلان" الذي انتعش حضوره على أثر منعه، ليعود حجمه وينحسر من عدة ملايين إلى عدة آلاف في الثلاثينيات وحتى اليوم. لكن النعرة لم تنطفئ. تكررت بصيغ مختلفة، من العملية الانتحارية للأبيض تيموثي ماكفاي عام 1995 والتي أودت بأكثر من 140 قتيلاً، إلى محاولة احتلال كونغرس ولاية ميشيغن واختطاف حاكمة الولاية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وانتهاء بهجمة الكونغرس قبل أيام، والتي استحضرت كابوس الحرب الأهلية. في كل مرة تعود المؤسسة لتمسك بزمام المبادرة. لكنها لم تنجح بعد في محو هذا الوباء. ثقافته متغلغلة بدرجة أو بأخرى في مجمل النسيج الاجتماعي وحتى الأمني كما تبين مؤخراً.

خاطب الرئيس الجديد الأميركيين بلغة التهدئة والمصالحة والوعود، مشدداً على الانخراط والشراكة في الشؤون الخارجية

 

التحدي أمام بايدن هائل. لقد نجح في تسجيل بداية واعدة ولو احتفالية، رغم سواد اللحظة. خاصة في مقابل مغادرة مهزومة لسلفه المعزول والمرفوض بقوة حسب الاستطلاعات. خاطب الرئيس الجديد الأميركيين بلغة التهدئة والمصالحة والوعود، مشدداً على الانخراط والشراكة في الشؤون الخارجية. احتفال التنصيب جعل واشنطن تبدو اليوم متحررة من كابوس الأمن. المشكلة ربما تكون قد تراجعت بعد أن لملمت المؤسسة الرسمية أطرافها لرد الخطر واسترجاع المبادرة. لكن أصل الأزمة باقٍ من غير حلّ، كما في كل مرة مشابهة في السابق. وغداً يوم آخر، معه يبدأ الشق الصعب من رئاسته والمرهونة نجاحاته النسبية بتعاون الجمهوريين معه، ولو بالحد الأدنى. وأول اختبار لهذا الاحتمال سيكون في محاكمة ترامب في مجلس الشيوخ وحجم تأييد الجمهوريين لعزله ولو بعد الآوان.