كُشف النقاب عن مضمون تقرير قدمه المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يتضمن جملة من التوصيات تتعلق بكيفية معالجة ملف الذاكرة والاستعمار الفرنسي للجزائر، وكذا الخطوات اللازمة لعقد مصالحة تاريخية بين الشعبين الفرنسي والجزائري، تحت مسمى "الذاكرة والحقيقة"، دون أن يتضمن التقرير أية توصية بتقديم اعتذارات فرنسية رسمية عن جرائم الاستعمار الفرنسي.
وتضمن التقرير، الذي يصف ما حدث في الجزائر بـ"الحرب"، 22 بنداً، عبارة عن توصيات أبرزها استمرار السلطات الفرنسية في إحياء الاحتفالات التذكارية لثلاث مناسبات متصلة بالجزائر، وهي التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في 19 مارس/آذار 1962، وإحياء مجازر 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961، التي تم فيها قمع العمال الجزائريين في فرنسا، وكذا إحياء اليوم التكريمي للحركي، وهم الجزائريون المتعاونون مع الجيش الفرنسي في الجزائر، والذين غادر أغلبهم إلى فرنسا فجر الاستقلال، خوفاً من الانتقام والقتل.
يوصي تقرير ستورا بإجراء مباحثات بين السلطات الفرنسية والجزائرية، بشأن إمكانية تسهيل زيارة هؤلاء المتعاونين (الحركي) وأبنائهم إلى الجزائر
ويوصي تقرير ستورا بإجراء مباحثات بين السلطات الفرنسية والجزائرية، بشأن إمكانية تسهيل زيارة هؤلاء المتعاونين (الحركى) وأبنائهم إلى الجزائر، إذ ترفض الجزائر منذ عقود عودتهم إلى البلاد. ويقترح التقرير إنشاء هيئة مختصة تتولى جمع وتدوين شهادات "ضحايا هذه الحرب لإثبات المزيد من الحقائق وتحقيق المصالحة"، كما يقترح اعتراف الحكومة الفرنسية بمسؤوليتها في اغتيال المحامي الشهيد علي بومنجل الذي قُتل في عام 1957، في نفس سياق الاعتراف الفرنسي عام 2018 بمسؤولية فرنسا في قتل عالم الرياضيات موريس أودان في الجزائر، بسبب دعمه لثورة الجزائر.
وكان الرئيسان الجزائري عبد المجيد تبون والفرنسي إيمانويل ماكرون قد اتفقا، في شهر يونيو/حزيران الماضي، على تكليف لجنة مشتركة تضم مؤرخاً من كل بلد، يتولى كل منهما تحضير تقرير وتصور عن الخطوات اللازمة لحسم ملف الذاكرة نهائياً، حيث عين الرئيس الفرنسي المؤرخ بنجامين ستورا وكلف الرئيس الجزائري مستشاره المؤرخ عبد المجيد شيخي. ولم يكشف الجانب الجزائري حتى الآن عن مقترحاته التي يطرحها لمعالجة الملف. ولافت أن التقرير الذي قدمه المؤرخ ستورا، لا يتضمن أية إشارة إلى خطوات من شأنها تقديم اعتراف فرنسي رسمي وكامل للجزائر عن مجموع جرائم الاستعمار، أو اعتذار وتعويضات، واكتفى بالخطوات الرمزية المتضمنة في التوصيات الـ22.
وحول ملف التجارب النووية الفرنسية في الجزائر بين عامي 1960 و 1966 ونتائجها، يحث التقرير على مواصلة العمل المشترك الخاص بكشف حقيقة هذه التفجيرات والآثار المترتبة عنها حتى الآن في مدن الصحراء الجزائرية، إضافة إلى معالجة مشتركة لقضية زرع الألغام على الحدود التونسية والمغربية وخرائطها، إذ لا تزال هذه الألغام تخلف ضحايا حتى الظرف الراهن بعد مرور أكثر من خمسة عقود بعد استقلال الجزائر.
واقترح ستورا إنجاز تمثال للأمير عبد القادر في منفاه بمدينة أومبواز الفرنسية، التي بقي فيها بين عامي 1848 و 1852، قبل أن يغادر إلى دمشق، بعد مقاومته للغزو الفرنسي للجزائر في منتصف القرن الـ19، ويدشن هذا النصب التذكاري في يوليو 2022، بمناسبة الذكرى الـ60 لاستقلال الجزائر، وإعادة إطلاق مشروع إنشاء متحف لتاريخ فرنسا والجزائر، في مدينة مونبلييه الفرنسية، بعدما تم تجميده في عام 2014. وتسمية شوارع في فرنسا بأسماء أطباء وفنانين ولدوا في الجزائر ويستحقون التخليد، و تنظيم معرض عن تاريخ الهجرة أو مؤتمر حول الاستقلال في الدول الأفريقية، ومؤتمر دولي يخصص لتخليد مسيرة شخصيات فرنسية رفضت وعارضت القمع الفرنسي في الجزائر على غرار الفيلسوف جون بول سارتر و فرانسوا مورياك، ونقل رفات المحامية والمناضلة جيزيل حليمي إلى مقبرة العظماء في بانثيون بفرنسا، باعتبارها شخصية بارزة وقفت إلى جانب الشعب الجزائري وناضلت في سبيل استقلاله.
وينص التقرير على إصدار ما يصفه بدليل المفقودين، الذين يجهل مصيرهم حتى الآن، سواء أكانوا مناضلين جزائريين أم أوروبيين، اختطفوا من قبل البوليس الاستعماري في معركة الجزائر، لتسهيل عمل لجنة الباحثين لتحديد موقع قبور هؤلاء المختفين منذ ثورة التحرير الجزائرية، إضافة إلى استمرار نشاط اللجنة المشتركة للخبراء العلميين الجزائريين والفرنسيين، المكلفة بدراسة الرفات البشرية لمقاتلين جزائريين من القرن التاسع عشر، المحفوظة في متحف الإنسان والتاريخ الطبيعي بباريس، فضلاً عن تشكيل لجنة مكونة من المؤرخين الفرنسيين والجزائريين لتسليط الضوء على ما يعتبرها عمليات اغتيال تعرض لها بعض الأوروبيين خلال ما يعرف بمجزرة وهران غربي الجزائر يوم الاستقلال في يوليو 1962، وتتولى اللجنة جمع شهادات والاستماع إلى شهود عاشوا تلك الأحداث، إضافة إلى حث السلطات الجزائرية على الالتزام بصيانة المقابر الأوروبية ومقابر اليهود في الجزائر.
وبشأن مطلب الجزائر استرجاع مدفع "بابا مرزوق" التاريخي المنصوب في مارسيليا، يقترح التقرير إنشاء لجنة مؤرخين من البلدين للبحث في موضوع المدفع، والذي تعود أهميته إلى كونه استخدم في الجزائر من قبل حاكمها في القرن الـ17، الباشا حسن، لقذف قناصلة فرنسيين في البحر. وحول الأرشيف الذي تطالب به الجزائر، يقترح التقرير الفرنسي تفعيل مجموعة العمل المشتركة مهمتها جرد الوثائق التي أخذتها فرنسا أو تركتها في الجزائر، وإنشاء قاعدة أرشيفية مشتركة بين البلدين، يمكن الوصول إليها بسهولة، ومنح التأشيرات للباحثين من البلدين لتسهيل مهمتهم في إنجاز رسائل جامعية وأبحاث متعلقة بالتاريخ الاستعماري والثورة الجزائرية، وتسهيل وصول الباحثين إلى كل الأرشيف، وتوفير منح جامعية وبحثية لهم، ونشر أعمال المؤرخين من خلال دور نشر كبيرة.