تواصل دولة الاحتلال الإسرائيلي حرب الإبادة على قطاع غزة. نحو 9 آلاف شهيد وعدد لا يُحصى من الجرحى والنازحين. أما من يصمدون في وجه آلة الحرب وينجون بحياتهم، فتخطط إسرائيل على الأرجح لترحيلهم، بالأساس إلى سيناء في حال حققت أهدافها بإسقاط حكم حركة "حماس" والقضاء على قادتها وقدراتها العسكرية. وفيما تُطرح أفكار إسرائيلية عدة إزاء الحلول الممكنة من وجهة نظر الاحتلال لقطاع غزة بعد الحرب، وهو ما يُفسَر على أنه تخبّط وارتباك، إلا أن هناك خشية أيضاً من أن إسرائيل ربما تحاول إخفاء نواياها الحقيقية.
تحدّث العديد من المحللين السياسيين والعسكريين وحتى المسؤولين الإسرائيليين عن عدة خيارات منذ بداية الحرب الحالية في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تحمل أوجهاً إيجابية وأخرى سيئة من منظور إسرائيل، منها إعادة السلطة الفلسطينية إلى غزة، أو إقامة حكم إسرائيلي - مصري مشترك فيها، أو إقامة إدارة مدنية، أو نشر قوات دولية، أو إقامة منطقة عازلة، أو تسليم غزة إلى مصر، أو إعادة احتلال القطاع، وغيرها من قائمة طويلة.
ومن بين الإمكانيات قد يكون السيناريو الأسوأ للفلسطينيين، هو محاولة تهجير سكان غزة إلى مصر وغيرها من الدول، وثمة أصوات إسرائيلية تدعم هذا التوجه قبل عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي وبعدها، من بينها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو.
نتنياهو طلب من قادة أوروبيين الضغط على مصر للموافقة على استقبال لاجئين من غزة "بشكل مؤقت"
وتحاول إسرائيل الاستفادة من الديون الكبيرة المتكدّسة على مصر من أجل الضغط عليها لاستقبال أهالي غزة. ويعزز هذا التوجه، ما كشفته إذاعة "ريشت بيت" الإسرائيلية الثلاثاء الماضي من أن نتنياهو طلب في الآونة الأخيرة من قادة أوروبيين، الضغط على مصر لإقناعها بالموافقة على استقبال لاجئين فلسطينيين من غزة "بشكل مؤقت"، مضيفاً أن "مصر يمكنها منحهم اللجوء". وقد تدعم جهات أوروبية هذا التوجه، خشية تحوّل الهجرة إليها.
وتُستشف نوايا التهجير الاسرائيلية لأهالي القطاع، من تصريحات مستشار الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي أيضاً، الذي قال الثلاثاء، إنه بعد الانتهاء من عمليات جيش الاحتلال في شمال القطاع، فإن "دور الجنوب سيأتي، وسيحين دور الوسط. كل شيء في وقته وكما قلنا إن الحرب طويلة".
يدرك هنغبي أنه إن "حان وقت الوسط والجنوب"، فليس لسكان هاتين المنطقتين ومن نزحوا إليهما أي خيارات داخل القطاع، ذلك أن الشمال مدمّر، ما يعني أن إسرائيل تحاول الدفع بهم نحو مصر.
يضاف ذلك إلى المستند الصادر عن وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، ويشير بنص صريح ضمن أحد الخيارات المطروحة، إلى قيام إسرائيل بإجلاء المدنيين الغزيين إلى سيناء، وإقامة مدن خيام لهم في منطقة سيناء، وممر مساعدات إنسانية ومن ثم بناء مدن لهم، وعدم السماح لهم بالعودة إلى النشاط أو السكن على مقربة من حدود إسرائيل.
ومنذ بداية الحرب، يكرر نتنياهو وجيش الاحتلال مطالبتهما لسكان غزة بترك شمال القطاع والتوجه جنوباً، مهددين بأن القصف سيكون قوياً، وأن المساعدات ستكون في الجنوب. وكانت مصر قد أعربت مراراً عن خشيتها من أن يدفع ذلك المهجّرين إلى أراضيها، مؤكدة أنها ترفض تهجير الفلسطينيين إليها.
لكن حديث إسرائيل عن المراحل المقبلة التي ستمتد فيها حرب الإبادة إلى سائر القطاع، قد لا يترك خياراً لعدد كبير من الغزيين إلا الاقتراب أكثر نحو الحدود المصرية. وتراهن إسرائيل على أن مصر لن تستطيع صدّ من يطلبون اللجوء هرباً من قنابل الاحتلال وقصفه الفتاك. أو ربما يصل الكثيرون لتلقي العلاج في المستشفى الميداني الذي تقيمه مصر على حدود القطاع ويبقون هناك. وقد تضغط إسرائيل على مصر أيضاً بورقة الغاز الذي تصدّره إليها.
استغلال الأزمة الاقتصادية في مصر
رأى محلل السياسات الاقتصادية لدول المنطقة، الإسرائيلي دورون بيسكين، أن الأزمة الاقتصادية في مصر قد تشكّل رافعة أساسية لاستيعاب اللاجئين، وأن الرفض المصري المعلن يعود لأسباب سياسية واقتصادية. وكتب في صحيفة "كلكليست" الإسرائيلية في 17 أكتوبر الماضي، أن فكرة توظيف سيناء كجزء من الحل للقضية الفلسطينية ليست جديدة.
محلل إسرائيلي: الأزمة الاقتصادية في مصر قد تشكّل رافعة أساسية لاستيعاب اللاجئين
وأشار إلى "خطة القرن" التي عرضها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وتضمّنت تطوير شمال شبه جزيرة سيناء واستقدام مستثمرين إليها وإدارة المشاريع من قبل الفلسطينيين والمصريين معاً، فيما خشيت القاهرة من أن الخطة تطمح إلى توطين الغزيين في سيناء وتحويلها إلى وطن بديل ودفن القضية الفلسطينية وأسباب أخرى. واعتبر أنه على الرغم من المواقف المعلنة لمصر فربما ثمة تردد غير معلن، نابع من الوضع الاقتصادي الصعب وإمكانية أن يتجنّد المجتمع الدولي لمنحها حوافز مقابل موافقتها على أن تكون جزءاً من حل الأزمة في غزة، برأي الكاتب، الذي رأى أن ما يعزز ذلك أيضاً ليس واقع الاقتصاد المصري فقط وإنما افتقاده أيضاً لأي أفق.
وفي السياق، ذكر موقع صحيفة "يديعوت أحرونوت"، الثلاثاء الماضي، أن إسرائيل تحاول الضغط على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لقبول اللاجئين من غزة، وأن نتنياهو طلب خلال حديثه إلى قادة حول العالم محاولة إقناعه. وقدّمت تل أبيب عرضاً جديداً، يقوم بموجبه البنك الدولي بشطب جزء كبير من الديون المالية للقاهرة مقابل استقبال اللاجئين من غزة.
فكرة التهجير إلى سيناء حاضرة دائماً
تهجير أهالي غزة وحتى أهالي الضفة إلى سيناء كان حاضراً دائماً في فكر الإسرائيليين. بعد احتلال غزة عام 1967، مالت حكومة الاحتلال إلى ضمها إلى إسرائيل وإفراغها من معظم سكانها اللاجئين أصلاً، بعد نزوحهم إليها إثر النكبة. ومن بين المبادرات في حينه، اقتراح يوسف فايتس، أحد المسؤولين وقتئذ فيما يُسمى "صندوق أراضي إسرائيل" وأحد المنادين بالترانسفير حتى قبل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، الذي اقترح ترحيل أهالي غزة إلى الضفة الغربية.
وقدّم الوزير في حينه يغال ألون مشروعاً لترحيل نحو 50 ألف فلسطيني من قطاع غزة إلى ثلاث مناطق في منطقة العريش المصرية، بتمويل إسرائيلي في المرحلة الأولى، لكن مصر رفضت ذلك.
وعام 1971، اقترح أرئيل شارون، الذي كان في ذاك الوقت قائد منطقة الجنوب في جيش الاحتلال، تهجير 12 ألف فلسطيني من مخيمات اللاجئين في غزة إلى مناطق لجوء أخرى في سيناء، وهو اقتراح رفضته مصر أيضاً رفضاً قاطعاً. وعادت المخاوف المصرية من تهجير سكان غزة إلى سيناء خلال العدوان الإسرائيلي على القطاع في خريف 2012.
وفي 16 فبراير/شباط 2017، كتب الناشط الإسرائيلي اليميني ران بوزاغلو، في موقع "نيوز ديسك يسرائيل"، أن الحل المنشود إسرائيلياً هو تهجير فلسطينيي الضفة الغربية إلى سيناء، الذي اعتبر أن إسرائيل تنازلت عنها في إطار اتفاقية السلام مع مصر، وبذلك تتصل جغرافياً مع قطاع غزة، وتقام دولة فلسطينية متّصلة الأجزاء، بحسب طرحه.
واعتبر أن قضية نقل السكان ليست سهلة من الناحية العملية، "لكنها ممكنة وطُبّقت في القرن العشرين في الهند وقبرص ويوغسلافيا وكذلك في شبه جزيرة سيناء وفي غوش قطيف" (كتلة من 21 مستوطنة إسرائيلية في جنوب قطاع غزة تم إخلاؤها بعد قرار فك الارتباط عام 2005).
خلق واقع لا يُطاق في غزة
قبل أيام، كتب رفائيل بن ليفي، رئيس برنامج "تشرتشل" للأمن القومي في معهد "أرغمان"، وعضو "معهد ميسغاف للاستراتيجية الصهيونية"، في مجلة "هشيلوح" الإسرائيلية، أن "السبيل الوحيد الممكن لتحقيق الاستقرار على الحدود الجنوبية هو العمل على نقل السكان إلى سيناء وإنشاء مبادرة دولية لاستقبال النازحين من غزة إلى دول أجنبية". وتابع: "على الرغم من المقاومة المتوقّعة، يتعين على إسرائيل أن تتحرك بكل حزم من أجل خلق وضع لا يطاق في غزة، وهو الوضع الذي من شأنه أن يجبر دولاً أخرى على مساعدة السكان على الرحيل، وأن تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً شديدة لتحقيق هذه الغاية". واعتبر بن ليفي أن "هذه الطريقة وحدها، قادرة على إيصال رسالة واضحة إلى أعدائنا في المنطقة، مفادها أن إسرائيل موجودة لتبقى. وهي فقط ستقود في نهاية الحرب إلى وضع يبرر الجهد الكبير المستثمر فيها. وضع يخلق تغييراً كبيراً في الواقع الأمني الإسرائيلي".
بن ليفي: السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار على الحدود الجنوبية هو العمل على نقل السكان إلى سيناء وإنشاء مبادرة دولية لاستقبال النازحين من غزة إلى دول أجنبية
وزعم بن ليفي أن من يسكن في غزة، هو جيل ترعرع على فكر "حماس"، "ولا يؤمن بالتعايش"، ولذلك "يجب إبعاد سكان غزة"، على حد تعبيره، وبعدها ضم غزة إلى إسرائيل.
واعتبر أن تهجير سكان غزة هو خطوة "عادلة للغاية من الناحية القانونية أيضاً"، و"مقبولة لتقليل عدد القتلى"، وأن "الحرب أيضاً عادلة"، وبموجب القانون الدولي "فإنه من حق الدول ضم أراضٍ تتم السيطرة عليها في إطار حرب دفاعية، مثلما فعلت إسرائيل في هضبة الجولان، وحتى أنها حصلت بعد سنوات على اعتراف من الولايات المتحدة". ورأى أن الولايات المتحدة يمكن أن تضغط على "عدة دول يتوجب عليها المساعدة في استقبال اللاجئين من غزة".
دولة غزة
من جهته، عرض إيتان بن إلياهو، القائد الأسبق لسلاح الجو الإسرائيلي، تصوراً لـ"دولة غزة"، من خلال مقال نشره في موقع "يديعوت أحرونوت" في الأول من يونيو/حزيران 2023. وكتب بن إلياهو، أن ثمة معطيات من شأنها تحويل غزة إلى مدينة، في إطار الحلول التي يعرضها للقطاع، وبدا لافتاً أنها تأتي أيضاً على حساب الأراضي المصرية في سيناء. واقترح بن إلياهو زيادة مساحة القطاع بتجفيف جزء من البحر وإقامة مطار لا تؤثر الرحلات منه وإليه على مسارات الطيران من إسرائيل وإليها. كما اقترح إقامة ميناء على شواطئ القطاع، يخدم الحركة التجارية في سيناء ومنطقة البحر الأحمر.
وتابع أن مصر ستكون لاعباً مركزياً لإنجاز ذلك، وأنه "في سبيل تحقيق الاستقرار والهدوء فإنها قد تبدي استعداداً لزيادة مساحة قطاع غزة على حساب أراضي سيناء، قد تصل إلى مشارف العريش"، بحسب اعتقاده. وخلص إلى أن بناء مشروع ضخم بهذا الحجم لا يكون إلا بمساعدة الحكومات التي لديها "الرغبة والرؤية لمستقبل اقتصادي وسياسي أفضل في الشرق الأوسط وأيضاً بمساعدة مالية من رجال الأعمال الذين سيكون دافعهم الأعمال وربما أيضاً مساهمة خيرية".