على الرغم من مرور أكثر من عامين على حادثة اقتحام القنصلية الإيرانية في مدينة النجف جنوبي العراق، وإحراقها من قبل متظاهرين غاضبين، إبان موجة الاحتجاجات الشعبية التي عمّت مدن جنوب ووسط البلاد، إلا أن أكثر من عشرين ناشطاً مدنياً ما زالوا مطاردين وتحت ضغط التهديدات من قبل جماعات مسلحة، وفقاً لما يؤكده عدد منهم وآخرون في أحاديث لمقربين منهم. ويتلقى هؤلاء رسائل على هواتفهم أو حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، بين وقت وآخر، تجعلهم فاقدين لمعنى الاستقرار في مكان واحد.
اتهامات وتهديدات لناشطين بعد إحراق قنصلية إيران في النجف
وفي ذروة الاحتجاجات الشعبية للعراقيين في مدن النجف وكربلاء والبصرة وذي قار وميسان والقادسية وبابل وواسط وبغداد، رفع المتظاهرون العراقيون شعارات مناوئة للتدخل الإيراني في البلاد، وأحرقوا صوراً لقيادات إيرانية عدة، بينها المرشد الإيراني علي خامنئي، قبل الإقدام على مهاجمة مصالح إيرانية عدة، أبرزها القنصليتان الايرانيتان في البصرة وكربلاء. ثم تم إحراق القنصلية الإيرانية في النجف، أكبر قنصليات إيران في العراق، نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
ويواجه الناشطون اتهامات من مليشيات وجماعات مسلحة توصف عادة بأنها حليفة لإيران، وهي اتهامات كانت غطاء لسلسلة من جرائم القتل والخطف التي طاولت عدداً من الناشطين المدنيين في السنوات الماضية.
ومن أبرز هذه المزاعم والاتهامات "الارتباط بالسفارة الأميركية وتنفيذ أعمال لصالحها، من ضمنها رفع شعارات مناوئة لإيران والفصائل المسلحة من قبل المتظاهرين، وإحراق القنصلية الإيرانية".
ناشط من النجف: يريدون التنكيل بمن شارك في الهجوم حتى لا نفكر في خطوة مماثلة في أي احتجاجات مستقبلية
وعلى الرغم من الاستقرار الأمني في مدينة النجف وبلدات تابعة للمحافظة، إلا أن أحد الناشطين المدنيين في المدينة يقول لـ"العربي الجديد"، إنه لا يريد المجازفة بالعودة والعيش تحت ضغط الملاحقة أو المراقبة.
ويضيف الناشط، الذي طلب عدم الكشف عن هويته، أنه "تلقى أكثر من تهديد بطرق مختلفة، دفعته إلى ترك النجف قبل أشهر والتواجد في بغداد حالياً، كونها مدينة كبيرة يسهل التخفي فيها".
ويوضح أنه متهم "بالمشاركة في حرق القنصلية الإيرانية"، مشيراً إلى أن "التهديدات تأتي من جماعات مسلحة، ولكن في كل مرة تأتي باسم مختلف، لا يبدو كونه أكثر من غطاء لمليشيات معروفة متطوعة أو مكلفة بالدفاع عن إيران".
ويقول المتحدث نفسه إن أحد الناشطين "ترك الدراسة وتوارى عن الأنظار"، مضيفاً "يريدون التنكيل بمن شارك في الهجوم حتى لا نفكر نحن أو غيرنا في خطوة مماثلة في أي احتجاجات مستقبلية".
وتوجّه الكثير من الناشطين المدنيين العراقيين بعد انتهاء فترة الاعتصامات والاحتجاجات إلى مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان، أو مدينة إسطنبول التركية للإقامة فيهما، خصوصاً بعد سلسلة الاغتيالات التي طاولت عدداً من الناشطين عام 2020 ومطلع 2021.
وتؤكد مصادر حقوقية في النجف، أحدها من داخل محكمة المدينة، أن القنصلية الإيرانية رفعت شكوى بحق المهاجمين، وحمّلت السلطات العراقية مسؤولية أمن بعثتها الدبلوماسية والممتلكات الخاصة بالمبنى التي تم إحراقها، مشيرة إلى أنه جرى اعتقال 5 من المتهمين بالمشاركة في الهجوم وإحالتهم للقضاء.
الجماعات المسلحة تلاحق الناشطين العراقيين
من جهته، يقول المحامي حيدر السعدي، تعليقاً على التهديدات التي يتلقاها الناشطون، إنه لا يرى فيها "أكثر من تصرفات ذاتية لجماعات السلاح المنفلت".
ويؤكد، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "إحدى تلك الجماعات طلبت العام الماضي من ناشط الظهور في تسجيل مصور للاعتذار عن مشاركته في حرق القنصلية، لكنه رفض وغادر المدينة كليا نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي".
بدوره، يشير النائب في البرلمان العراقي، باسم خشان، إلى أن "بعض الجماعات المسلحة هي التي تلاحق الشباب المتظاهرين، بسبب مشاركتهم في التعبير عن غضبهم خلال فترة الاحتجاجات الشعبية، ومنها أحداث حرق القنصلية الإيرانية في مدينة النجف، والقنصلية الإيرانية في مدينة كربلاء، وهو تعبير سلمي، حتى وإن تسبب في حرق أجزاء من مبنيي القنصليتين".
جرى اعتقال 5 من المتهمين بالمشاركة في الهجوم وإحالتهم للقضاء
ويؤكد خشان، في اتصالٍ مع "العربي الجديد"، أن "جميع التظاهرات والانتفاضات في دول العالم تترك آثاراً على مستوى حرق المباني، وهذا لا يعني أنه سلوك جيد، بل إن حالة الغضب الشعبي تؤدي إلى مثل هذه التصرفات. لذلك، من واجب الحكومة أن تمنع الجهات المسلحة من ملاحقة الناشطين وتهديد حياتهم وتفجير منازلهم، واللجوء إلى القضاء في كل الأحوال".
وفي السياق، يقول الناشط العراقي الحقوقي حسين المشهداني، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "عدداً من المتظاهرين والناشطين في النجف، ما زالوا مطاردين من قبل جماعات مسلحة توالي إيران، لا تزال غاضبة بشأن حرق قنصلية الأخيرة في المدينة".
ويلفت إلى أن "هؤلاء الناشطين موزعون ما بين أربيل والسليمانية وإسطنبول"، مضيفاً أنه "على الرغم من عدم وجود دعاوى ضدهم في المحاكم أو صدور أحكام قضائية بحقهم، إلا أنهم يستشعرون خطر العودة إلى النجف بسبب الجماعات المسلحة". ويعتبر المشهداني أن "هؤلاء الناشطين يدفعون منذ عامين ضريبة هتاف (إيران بره بره)".
وكانت وزارة الخارجية العراقية، قد وصفت منفذي عملية حرق القنصلية الإيرانية في النجف بـ"الغرباء". وذكرت في بيان صدر نهاية عام 2019، أن "الغرض مما تعرضت له القنصلية الإيرانية، هو إلحاق الضرر بالعلاقات التاريخية بين العراق وإيران، وكذا بالعلاقات مع بقية دول العالم التي تعمل بعثاتها في العراق".
لكن وسائل إعلام إيرانية اتهمت محافظ النجف الأسبق، عدنان الزرفي، والناشط أحمد شربه، بتوجيه الشباب الغاضبين لاقتحام القنصلية وحرقها، لكن هذا الاتهام لم يلقَ أي اهتمام شعبي في العراق.
باسم خشان: من واجب الحكومة أن تمنع الجهات المسلحة عن ملاحقة الناشطين وتهديد حياتهم
دلالات سياسية لحرق القنصلية الإيرانية في النجف
إلى ذلك، يعتبر الناشط السياسي المدني علي الحجيمي، حادثة حرق القنصلية الإيرانية في النجف بأنها "كانت ذات دلالات سياسية كبيرة بالنسبة للأحزاب والجماعات المسلحة الموالية لإيران".
ويضيف الحجيمي، في حديث مع "العربي الجديد": "لم يتوقع أحد بأن يذهب شبان من النجف إلى تصعيد من هذا النوع، إذ إن القنصلية الإيرانية هي أحد أهم المواقع السياسية في المدينة، وكانت الرسالة أبلغ، كون الحادثة حصلت في النجف وليس في أي مدينة أخرى".
ويشير إلى أن "هناك ناشطين يفضّلون البقاء خارج المحافظة على العودة إليها، في ظل استمرار تهديدات الجماعات المسلحة التي قد تنفذ تهديداتها متى ما قررت ذلك أو وجدت الظرف مناسباً".