جاءت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، أمس الأحد، لتعيد إلى الواجهة القلق الأوروبي من وصول اليمين الشعبوي المتطرف إلى الحكم في القارة العجوز، وبالأخص في فرنسا إحدى أهم دول الاتحاد الأوروبي.
وتأتي هذه المخاوف مع تقارب النتائج بين الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون، حيث حصل على 28.1% من الأصوات، ومنافسته اليمينية المتطرفة مارين لوبان، التي حصلت على نسبة 23.3%، وبالتالي سيخوضان الجولة الثانية بعد أسبوعين، والتي قد تعيد ماكرون لولاية ثانية إلى قصر الإليزيه أو تضع فرنسا تحت قيادة اليمين المتطرف.
زلزال سياسي في أوروبا
ويبدو واضحاً أن الخيار الثاني سيؤدي إلى زلزال سياسي في أوروبا على غرار الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي، وهذا ما تخشاه برلين وبروكسل على وجه الخصوص، لا سيما أن فرنسا وألمانيا تشكلان حالياً ركيزتين أساسيتين للتكتل.
وربطاً بما تقدم، يرى المراقبون، أن المنافسة القوية في الانتخابات الفرنسية ومراكمة المرشحة لوبان للأصوات، في وجه الليبراليين المؤيدين لأوروبا رغم التأييد الذي حظي به السياسي اليساري جان لوك ميلونشون بمطالبه الاجتماعية والسياسية، خلقتا توجساً في أوروبا.
وفي حال انتصار اليمينية الشعبوية لوبان في الجولة الثانية من الانتخابات سيكون الأمر بمثابة الصدمة للأوروبيين، لأن باريس حجر زاوية في كيان الاتحاد الأوروبي مع الشريكة ألمانيا. ولا يخفى على أحد أن المحور المترابط بين ألمانيا وفرنسا هو قوة الدفع للاتحاد.
وبينما يحاول ماكرون تقديم نفسه دائماً رجل الإصلاحات في بروكسل، حتى أنه تميز في الحرب الروسية على أوكرانيا كأحد أبرز الوسطاء الرئيسيين. تهدد في المقابل لوبان المتشككة أساساً في التكتل الأوروبي، بإعادة تنظيم جوهري للمسار الأوروبي، ولن تكون ألمانيا عندها الشريك المفضل لباريس.
وبحسب مراقبين ستتجه فرنسا بقيادة لوبان أكثر إلى دول مثل المجر أو بولندا، وستكون المواجهات حتمية مع بروكسل، وهذا ما سينقل باريس من عرابة المبادرات في التكتل إلى الساعي لإبطائها على مدى السنوات الخمس المقبلة.
سلسلة كاملة من المشكلات
ومما سبق كله، انطلق السياسي عن حزب "الخضر" الألماني في البرلمان الأوروبي، دانيال فرويند، في حديثه مع صحيفة "تاغس شبيغل"، للتأكيد أن التعاون في أوروبا سيكون صعباً للغاية في حال فوز لوبان، معتبراً أن الأمر سيدفع إلى سلسلة كاملة من المشكلات الأساسية.
وقال: "بالطبع علينا أن ننتظر ونرى ما الذي ستقدمه المرشحة المحتملة للرئاسة لوبان، لكن وصولها بالتأكيد سيتسبب بضرر هائل لفرنسا".
وأشار السياسي الألماني إلى أن "هناك تهديداً بسيادة القانون في العديد من دول الاتحاد الأوروبي"، ومبرزاً "علاقة لوبان الوثيقة مع رئيس الوزراء المجري المثير للجدل فيكتور أوربان، الذي حقق انتصاراً انتخابياً ساحقاً خلال الأيام الأخيرة، ويحكم بلاده بطريقة استبدادية".
كما أبرز "علاقة لوبان الوثيقة والوطيدة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين"، مذكراً بأنها "شاركته(بوتين) وجهة نظره عن أوكرانيا".
وبحسب فرويند، فإن هذه المعطيات تقود إلى أن دخول لوبان إلى قصر الإليزيه يعني أن الجبهة الأوروبية الموحدة ضد الحرب الروسية على أوكرانيا محل تفكك.
واستدرك قائلاً إنه "حتى في حال هزيمتها، لا يتم تفادي الخطر لأنه ومجرد حقيقة أنها وحزبها يزدادان حضوراً وقوة، فإن ذلك لا يبشر بالخير لصحة الديمقراطية في فرنسا".
وفي خضم ذلك، بينت التعليقات الصحافية أن فوز مارين لوبان سيضع باريس في حالة من الشلل السياسي لن تكون قادرة على الحكم ضد مجلس الشيوخ والجمعية الوطنية. وهناك لا تحظى لوبان بأي دعم وستضع غالبية الأحزاب نفسها ضد سياستها، وستكون هناك مواجهة سياسية غير مسبوقة، مع نتائج غير مضمونة.
وعلى المستوى الأوروبي، تحدثت وسائل إعلام عدة، عن أنه ستكون هناك اختلافات في الاستراتيجيات المستقبلية للتكتل، ولا سيما أن لوبان تطالب مثلاً "في برنامجها الانتخابي بوقف استخدام أنظمة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في بلادها وتفكيك توربينات الرياح الحالية وتمويل الطاقة النووية"، وهذا يدمر ما يسعى لتحقيقه الاتحاد بالاعتماد على الطاقة الخضراء، أحد أهم برامج الأخير في العقود المقبلة.
في أوروبا، هناك توجه إلى دعم أشكال الطاقة البديلة وجعل القارة محايدة مناخياً، لكن هذا الأمر لا يزال يتطلب موافقة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
تغيير جذري
وفي السياق، أشارت الصحيفة الألمانية "تاغس شبيغل" إلى أنه سيكون على برلين على وجه الخصوص أن تستعد لتغيير جذري، موضحة أن لوبان لن تتردد في التخلص من المحرك الفرنسي الألماني الذي تم التباهي به أوروبياً رغم الانتقادات الواسعة.
ورأت الصحيفة الألمانية في السياق أنه "لا يمكن بوصول لوبان إلى الرئاسة أن تنفّذ الإصلاحات المهمة التي لا تتم إلا بفضل التفاهم بين القوتين(ألمانيا، وفرنسا) سياسياً واقتصادياً، ولا سيما أنها تريد إعادة تنظيم شراكتها في المستقبل".
ولفتت إلى حديث سابق للوبان، قائلة إن "نتيجة العلاقة الفرنسية الألمانية كانت خيبة الأمل والخيانة والتخلي"، وفق الصحيفة.
وأبرز "تاغس شبيغل" مواقف لوبان ولا سيما في ما خص الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث ترى أن "توسع حلف شمال الأطلسي الناتو باتجاه الشرق يمثل تهديداً لروسيا".
وأمام هذا التصور لن تكون وحدة الاتحاد الأوروبي في خطر وحسب، بل إن انتصاراً محتملاً لمارين لوبان من شأنه أن يغرق الناتو في أزمة، ومن بينها مثلاً قد يصار على الأرجح إلى سحب القوات الفرنسية التي تحمي مناطق الحلف في ما يسمى بالجناح الشرقي في دول البلطيق ورومانيا، وفقاً لما أوردته الصحيفة الألمانية.