يستعد الرئيس التونسي قيس سعيّد لعرض مشروع الدستور الجديد على الاستفتاء الشعبي في 25 يوليو/ تموز الحالي (الإثنين المقبل)، من دون تحديد نسبة حسم ولا سقف مشاركة انتخابية، وسط مقاطعة حزبية لافتة، ما يجعل دستوره أمام طريق مفتوح للمرور دون عقبات. وتفصل أيام معدودة التونسيين عن موعد الاقتراع العام على مشروع الدستور الجديد، الذي سيكون بديلاً لدستور عام 2014 الذي تمّت صياغته بشكل تشاركي عقب الثورة. ونُشر المشروع في الجريدة الرسمية في 30 يونيو/حزيران الماضي، ولحقته تعديلات مفاجئة خلال الحملة الدعائية يوم 8 يوليو، وذلك لإصلاح 46 فصلاً شملت مختلف أبواب الدستور وبنوده.
ويمضي الرئيس قيس سعيّد في الاستفتاء، على الرغم من مقاطعة غالبية الطيف الحزبي في البلاد، ومعارضة طيف مدني ومجتمعي واسع لمسودة الدستور التي يبدو أن سعيّد صاغ نسختها الأخيرة بنفسه، بعدما تخلى عن مقترح لجنة الصياغة الدستورية التي عيّنها لكتابة نص الدستور الجديد، برئاسة الصادق بلعيد. ويعد الاستفتاء المرتقب على الدستور الجديد أولى مراحل الانتقال الهيكلي الذي يؤسس له سعيّد وأعلنه منذ عام، وذلك في 25 يوليو 2021، حين أقدم على تجميد عمل البرلمان وحلّ حكومة هشام المشيشي، ليقدم بوضوح في سبتمبر/ أيلول الماضي على تعليق العمل بغالبية بنود دستور 2014، ما مكّنه من توسيع سلطاته بشكل كبير.
استفتاء سعيّد ثاني استفتاء تعيشه تونس منذ الاستقلال
ويعد استفتاء سعيّد ثاني استفتاء تعيشه تونس منذ الاستقلال، إذ كان الرئيس الأسبق الراحل زين العابدين بن علي طرح أول استفتاء دستوري في عام 2002، وصفه المعارضون وقتها بالمزور و"المسخرة". وسمح بن علي لنفسه في ذلك العام، من تعديل دستور 1959 لإنهاء وضع حدّ للولايات (كانت 3) التي يمكن أن يشغلها رئيس الجمهورية التونسية، ولكسر الحاجز العمري المقدر بـ70 عاماً، ورفعه إلى 75 عاماً، ما مكّنه من البقاء في السلطة حتى إزاحته بثورة 2011. كما أقدم بن علي على إنشاء غرفة برلمانية ثانية، وهي مجلس المستشارين. وأعلن عن نسبة مشاركة بـ95.59 في المائة في استفتاء 2002 وتمّت الموافقة على تعديلات بن علي بنسبة 99.52 في المائة، في وقت حدّدت نسبة الحسم بـ50 زائد واحد من الناخبين المسجلين.
تونس: استفتاء بلا حدود
وعاب خبراء ومعارضون تونسيون تفادي سعيّد التنصيص في مرسوم الاستفتاء على نسبة مشاركة محددة من الجسم الانتخابي البالغ 9 ملايين و296 ألف شخص في قائمة المسجلين للمشاركة في الاستفتاء الدستوري، بحسب هيئة الانتخابات الوطنية، فيما لم يشر إلى نسبة الحسم المعتمدة بين الأغلبية المطلقة (50 زائد واحد) أو أغلبية معززة (الثلثان مثلاً)، وإن كان قبول الدستور باحتساب أغلبية المشاركين في الاستفتاء أو أغلبية الناخبين المسجلين.
وكان الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل (المنظمة النقابية العمالية)، نور الدين الطبوبي، من أكثر دعاة تحديد عتبة المشاركة، حيث طالب سعيّد في أكثر من مناسبة بـ"إصدار مرسوم يحدد عتبة في نسبة المشاركة لاعتماد نتيجة الاستفتاء".
ويعتبر الطبوبي أن "الديمقراطية تقتضي تحديد عتبة المشاركة في الاستفتاء حتى تكون له الشرعية اللازمة". وقال الطبوبي في تصريح سابق إنه ''إذا أصدر الرئيس مرسوماً يشترط عتبة 50 زائد 1 من الجسم الانتخابي، وإذا صوّتت هذه النسبة من التونسيين بنعم، سأنحني لإرادة الشعب''، وفق قوله.
كذلك، يثير عدم تنصيص مشروع الدستور، سواء في نسخة 30 يونيو أو المعدلة في 8 يوليو، على لزوم فوز الأصوات بنعم في الاستفتاء قبل اعتماده وتطبيقه، جدلاً قانونياً حول إمكانية فرض الدستور مهما كانت النتائج.
وجاء في الفصل 139 من مشروع الدستور الجديد، وفي باب الأحكام الانتقالية: "يدخل الدستور حيّز التطبيق ابتداء من تاريخ الإعلان النهائي عن نتيجة الاستفتاء من قبل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات". ويفتح سعيّد بهذا التنصيص أبواب مأزق قانوني وسياسي جديد في حال رفض الدستور، وذلك أمام قراءات وتأويلات، تقود بعضها إلى البقاء في حالة الاستثناء المفروضة بالأمر 117 مع تواصل تعليق دستور 2014، أو العودة إلى دستور 2014 وإلغاء المراسيم الرئاسية التي جاءت بعد 25 يوليو الماضي.
وفي معرض تعليقه على هذا البند، رأى الأمين العام لحزب العمّال (مقاطع للاستفتاء)، حمة الهمامي، في رسالة على صفحته الرسمية على موقع "فيسبوك"، أن "سعيّد لا يهتم أصلاً لا بالمشاركة بنعم، ولا بالمشاركة بلا"، معتبراً أن الاستفتاء الذي ينظمه الرئيس التونسي "لا يعدو أن يكون مسرحية، ستصرف عليه أموال طائلة بالطبع، على حساب قوت الشعب، ولكن لا تهمّه نتائجه مطلقاً". وأضاف الهمامي: "بعبارة أخرى، سعيّد سينظم الاستفتاء من أجل عيون الخارج خصوصاً، ودور الهيئة في هذه العملية لا يتجاوز دور التزكية". وتابع أن "معنى هذا الكلام أن قيس سعيّد لا تهمّه مطلقاً نتيجة الاستفتاء، وهو لا يضع في احتماله مطلقاً إمكانية فشله. فهو رابح رابح، أحب الشعب أم كره".
من جهته، اعتبر الخبير الدولي في الشأن الانتخابي، والرئيس السابق لشبكة "مراقبون"، محمد مرزوق، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن أهم "معيار انتخابي في الاستفتاء هو نسبة المشاركة، ولكن تمّ تهميشه إعلامياً ربما لأسباب سياسية". وبيّن مرزوق أن "المشاركة هي أهم من التصويت بنعم أو لا، خصوصاً في غياب عتبة قانونية محددة بـ30 في المائة أو 50 في المائة، لتوضيح قواعد اللعبة مسبقاً، وحتى تكتسي العملية شرعية ومشروعية أكبر".
وشدّد الخبير الدولي على أن "تمرير دستور بشرعية ضعيفة، يعني أنه سيتم تغييره بعد 5 سنوات أو بعد نهاية ولاية سعيّد، في وقت لا تحتمل فيه البلاد مزيداً من عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي". وبيّن أن "حملة الانتخابات التشريعية المقبلة ستصبح مبنية على تعديل الدستور أو إلغائه بدل الحديث عن الاقتصاد، ما سيقودنا إلى حلقة مفرغة".
وشرح مرزوق أنه إذا "كانت نسبة التصويت بلا أكثر من نعم، أو إن بلغت نسبة الرافضين 20 في المائة، سندخل في أزمة ومأزق قانوني وجدل جديد بسبب عدم الوضوح". وفسّر أنه "بقدر ما يسّجل الاستفتاء ضعف مشاركة ستزيد نسبة التصويت بنعم"، مشيراً إلى أن "فتح باب التسجيل الآلي من السلطة القائمة الآن يفسّر برغبتها في رفع نسبة المشاركة مقارنة بالسابق ولبلوغ خزان انتخابي مغاير للخزان الانتخابي الذي يمكن أن يبقى وفياً للمقاطعين أو المعارضين ممن حكموا خلال السنوات السابقة".
لا ينص الدستور على لزوم فوز الأصوات بنعم لاعتماده
بدوره، قال النائب في البرلمان المنحل، الصافي سعيد، في تصريح صحافي، إن "أغلب الاستفتاءات الناجحة لدى شعوب العالم لا تكون إلا باعتماد نسبة الثلثين من قاعدة انتخابية عريضة، أي ما يعادل 66 في المائة"، مضيفاً أن "القائمين على الاستفتاء في تونس يتهربون من تحديد العتبة التي سيتم على أساسها تحديد نجاحه من عدمه".
في مقابل ذلك، تضبط بنود مجلة الجماعات المحلية في تونس (قانون البلديات 2016)، كيفية تنظيم الاستفتاء المحلّي وطرق إقراره بشكل ديمقراطي بين مجلس الجماعة المحلية (المجلس البلدي) والمتساكنين (السكان الناخبين في إطار منطقة البلدية)، وخصوصاً شروط اعتماد نتائجه بنسبة المشاركة والإقبال، حيث ينص على أن "تكون نتائج الاستفتاء المحلي ملزمة شرط ألا تقل نسبة المشاركة عن ثلث الناخبين المسجلين".
أما بالنسبة إلى الاستفتاءات الدستورية في دول الجوار التونسي، فقط صوّت في الجزائر 66.8 في المائة لصالح التعديلات الدستورية التي قدمها الرئيس عبد المجيد تبون في عام 2020، فيما بلغت نسبة المشاركة النهائية 23,7 في المائة، أي ما يناهز خُمس الناخبين المسجّلين لصالح التعديل الدستوري. ووصف المعارضون هذه النسبة بالهزيلة جداً، وتقلصاً لمشروعية تبون مقارنة بنسبة المشاركة في انتخابات الرئاسة في 2019 المقدرة بـ39.93 في المائة.
وفي مصر، بلغت نسبة التصويت 88.83 في المائة في عام 2019، لصالح التعديلات الدستورية التي طرحها الرئيس عبد الفتاح السيسي ليضمن البقاء في السلطة حتى 2030، في استفتاء مثير للجدل دام 3 أيام. وبلغت نسبة المشاركة في هذا الاستفتاء 44.33 في المائة، وسط تشكيك غير مسبوق من قبل المعارضين.
خوف من المجازفة
ويرى المعارضون لسعيّد أنه يخشى المجازفة بتحديد سقف المشاركة ونسبة الحسم، فيما تتزايد المؤشرات لديه بعزوف التونسيين عن المشاركة في التصويت بسبب الاحتقان السياسي والاجتماعي، علاوة عن الرفض الحزبي والمدني الواسع للنص الدستوري المقترح. وتراود الرئيس هواجس فشل الإقبال والمشاركة بما يجعل رفع أي حدود على الاستفتاء تمهيداً لتمرير المشروع بمن حضر ومهما كانت نسبة المشاركة.
واعتبر القيادي في حزب "ائتلاف الكرامة" (مقاطع للاستفتاء)، زياد الهاشمي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "كل أعمال الانقلاب هي فاقدة للشرعية والمشروعية، مهما كان الشكل والمضمون". ورأى أيضاً أنه "من باب التحليل لأفعال الانقلاب وخطواته نحو تركيز نظام استبدادي، قد لا يكون قيس سعيّد إلا مرحلة فيه".
تتزايد المؤشرات لدى سعيّد بعزوف التونسيين عن المشاركة
ولفت الهاشمي إلى وجود "تخوف يصل إلى درجة الرعب من قيادة الانقلاب حول نسبة المشاركة في التصويت على الاستفتاء، بدليل أن سعيّد وأجهزة الدولة بدأت تهيئ الرأي العام بأن هجمات إلكترونية على موقع الهيئة، قد تعرقل نجاح الاستفتاء". ورأى أن "ما هو ظاهر للعيان أن هناك فتوراً عاماً من الشارع تجاه العملية السياسية برمتها بعد انقلاب 25 يوليو وقبله أيضاً، وهذا نتيجة الوضع الاقتصادي في البلاد والمزاج العام السائد"، معرباً عن اعتقاده بأن "هذا ما جعل قيادة الانقلاب تتفادى وضع عتبة للتصويت على الدستور". وأكد أن "سعيّد يتجه إلى تمرير مشروعه مهما كلّفه الأمر، فهو يرى أنه ما دام الأمن والعسكر إلى جانبه، فهذا كافٍ لتأسيس دولة على المقاس، وبلا معارضة".
من جهته، اعتبر القيادي في حزب "الإنجاز والعمل" (معارض ومقاطع للاستفتاء)، الدكتور أحمد النفاتي، في تعليق لـ"العربي الجديد"، أنه "إذا كانت نسبة الإقبال ضعيفة، فهذا يمس من مشروعية الاستفتاء والرئيس"، مبيناً أن "الاستفتاء في الحقيقة هو على شخص الرئيس ومشروعه وليس على نص الدستور الجديد ".
وذكّر النفاتي بـ"الاستشارة الوطنية (الإلكترونية) التي فرضها سعيّد وجنّد لها كل مؤسسات وإمكانيات الدولة، والتي لم تتجاوز المشاركة فيها الـ500 ألف مشارك، وهو رقم لا يتجاوز 6 في المائة من إجمالي الناخبين، على الرغم من أنها استمرت حوالي شهر". واعتبر أن الإقبال الضعيف، فسيكون "كارثة على الرئيس، وسيفقده مشروعيته بالكامل"، بحسب رأيه.
في المقابل، أكد منسق حملة "الشعب يؤسس" للاستفتاء في مدينة صفاقس (سيصوت بنعم على مشروع الدستور)، عبد الحميد أولاد علي، لـ"العربي الجديد"، أن "عزوف الشعب، ولاسيما الشباب، عن المشاركة في المحطات الانتخابية، هو نتيجة انعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم"، مشيراً إلى أن "هذه الثقة المنعدمة ولّدت وعياً مجتمعياً رديئاً غير مبال بالشأن العام". وأضاف أن "انعدام الثقة زاد خلال العشرية القاتمة (2011 – 2021)، بسبب الوعود الزائفة والمماطلة والتسويف في كل محطة انتخابية".
ولفت أولاد علي إلى أن "أغلبية الشعب لا تزال تظن أن الاستفتاء هو شكل من الأشكال لتمكين حكم فئة ما، لكنه في الواقع عملية ديمقراطية تشرك المواطن في رسم ملامح الدولة السياسية". أما عن الاستفتاء الدستوري المرتقب، فلفت إلى كان "مسبوقاً باستشارة شعبية عبّر فيها طيف رأيه، وأبى طيف آخر أن يشارك فيها وذلك شأنهم". وقال أولاد علي إنه "على الرغم من كل المطبات والعراقيل ومحاولات اختراق السجل الانتخابي، سيكون عدد المشاركين محترماً".
يُذكر أنه في حديث سابق، وفي فيديو متداول بشكل لافت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أكد سعيّد أن الاستفتاء "أداة من أدوات الديكتاتورية المتنكرة، تتنكر تحت الاستفتاء وتحت عباءة الاستفتاء". وقال إنه يتنمى "أن يعيش يوماً واحداً يرى فيه استفتاء سلبياً بـ"لا"، متسائلاً: "هل نظّم استفتاء وحيد في بلادنا العربية، ولم يقل فيه الشعب نعم؟. وأضاف: "لماذا نرى الشعب يقول لا في هولندا، فرنسا، بريطانيا، سويسرا، إلا في بلادنا العربية وبالرقم الذي كان معهوداً: 99 في المائة صار اليوم أقل بقليل، ولكن في كل الحالات أكثر من 80 في المائة". واعتبر "أنه نوع من الانتخاب غير معلن لرئيس الدولة وليس استفتاء حول المشروع، إنما هو استفتاء حول صاحب المشروع".