يزداد وضع حقوق الإنسان تعقيداً في تونس، مع تواتر المحاكمات العسكرية والسياسية التي طاولت معارضين، وسط قلق من تصاعد وتيرة التضييق على الحريات. وتتواصل محاكمة عدد من السياسيين المعارضين للرئيس قيس سعيّد، عسكرياً ومدنياً، بسبب قضايا رأي وتصريحات ومواقف سياسية.
تونس: محاكمات عسكرية وسياسية
وشهدت تونس أخيراً، محاكمات لعدد من الشخصيات السياسية، من بينهم رئيس الوزراء الأسبق ونائب رئيس حركة "النهضة"، علي العريض، الذي سجن منذ أسبوع تقريباً في ما يعرف بقضية "التسفير إلى بؤر القتال". واعتبرت حركة "النهضة"، يوم الجمعة الماضي، خلال وقفة احتجاجية أمام مقر وزارة العدل في العاصمة تونس، أنّ محاكمة العريض سياسية في الأساس. ولفتت الحركة خلال الوقفة التي نددت بالاستمرار في اعتقال العريض، إلى أن ملف القضية فارغ، وأن الهدف منه التنكيل بمعارضي الانقلاب.
تتواصل محاكمة عدد من السياسيين عسكرياً ومدنياً
كما يُحاكم رئيس البرلمان المنحل وزعيم "النهضة"، راشد الغنوشي، في قضايا عدة. ويحاكِم القضاء العسكري عميد المحامين الأسبق، عبد الرزاق كيلاني، بتهم "الحثّ على العصيان وإثارة تجمع من شأنه المس بالأمن العام وهضم جانب موظف عمومي (تهمة تتعلق أساساً بالقول والاعتداء اللفظي والسب والشتم والتدافع"، ليحكم عليه بالسجن شهراً مع تأجيل التنفيذ.
وتشمل القضايا أيضاً برلمانيين سابقين وقيادات حزبية من حزب "الكرامة" في ما يعرف بـ"قضية اقتحام المطار (مارس/آذار 2021)"، من بينهم رئيس الحزب المحامي سيف الدين مخلوف، ومعه 6 برلمانيين آخرين، بالإضافة إلى المحامي مهدي زقروبة. وقرّرت محكمة الاستئناف العسكرية، يوم الجمعة الماضي، تأجيل النظر في هذه القضية إلى جلسة 20 يناير/كانون الثاني 2023، وذلك استجابة لطلب المحامين، ولتقديم ما يفيد صدور حكم عن القضاء العدلي (محكمة الاستئناف في تونس) في الوقائع ذاتها، وفي حق نفس المتهمين، بتاريخ 25 مايو/أيار 2022.
وينتظر عقد الجلسة المقررة هذا الأسبوع في 29 ديسمبر/كانون الأول الحالي، التي يحاكم فيها المحامي زقروبة من أجل نفس الأفعال أمام القضاء العدلي، وفق ما أورده عضو هيئة الدفاع عن المتهمين في القضية، سمير ديلو، في تدوينة على صفحته بموقع "فيسبوك".
وأصدرت المحكمة الابتدائية العسكرية الدائمة في تونس، في 17 مايو 2022، أحكاماً في هذه القضية، تقضي بسجن كل من سيف الدين مخلوف ونضال السعودي ومحمد العفاس وماهر زيد (نواب في البرلمان المنحل عن ائتلاف الكرامة) والمحامي مهدي زقروبة، والمواطن لطفي الماجري (قام بتصوير الواقعة) لمدة تراوحت بين 3 و6 أشهر، بتهمة "هضم جانب موظف عمومي"، إلى جانب الحكم بعدم سماع الدعوى في حق النائب السابق والقيادي في ائتلاف الكرامة المعارض، عبد اللطيف العلوي. كما أصدر القضاء العدلي بذات القضية، أحكاماً تقضي بحفظ التهمة في حق ثلاثة من المتهمين، وهم البرلمانيون السعودي والعفاس والعلوي.
وصدر يوم الجمعة الماضي، حكم عن الدائرة الجناحية في محكمة الاستئناف العسكرية الدائمة يقضي بسجن عضو البرلمان المنحل (القيادي السابق في ائتلاف الكرامة)، عبد اللطيف العلوي، مدة شهر، ومعه الإعلامي عامر عياد مدة شهرين، وهما في حالة سراح، فيما تقدمت هيئة الدفاع للتعقيب لوقف تنفيذ الحكم الاستئنافي. وحكم على العلوي ابتدائياً بثلاثة أشهر سجن، وعلى عياد أربعة أشهر، فيما أمضى الأخير ما يناهز شهرين مودعاً على ذمة التحقيق في نفس الملف، علماً أن كليهما حالياً في حالة سراح.
وتتعلق قضية العلوي وعياد في الملف الذي يعرف إعلامياً بـ"قضية قصيدة أحمد مطر"، حيث سبق أن ألقى الصحافي عياد قصيدة للشاعر العراقي أحمد مطر في برنامج تلفزيوني بحضور العلوي الذي كان ضيفه في البرنامج، وتمّ اعتبار القصيدة "مسّاً من كرامة الرئيس التونسي الذي يمثل قيادة المؤسسة العسكرية ونسب أمور غير صحيحة وارتكاب فعل موحش ضد الرئيس والدعوة إلى العصيان" ليوقَفا لفترة في وقت سابق ومحاكمتهما عسكرياً، قبل الإفراج عنهما لتتواصل محاكمتهما في حالة سراح.
وقال البرلماني المعارض، عبد اللطيف العلوي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "هذه المحاكمة العسكرية تستمر رغم أنها منافية لأبسط الإجراءات القانونية وما يقوم عليه القانون مثل انقضاء الدعوة مثلاً، إذ نحاكَم في نفس القضية عدلياً وعسكرياً وأصبح الحكم العدلي باتاً، أي أنه يفترض التخلي عنها آلياً". كما اعتبر أن المحاكمة "هي خرق كامل لجميع إجراءات رفع الحصانة باعتباري نائباً، وعامر عياد الذي يفترض أن يحاكم وفق المرسومين 115 و116 الخاصين بالصحافيين، وكل هذا داخل في سياق العبث بالقانون والدوس عليه منذ الانقلاب".
وتابع العلوي: "دخلنا في منطق الغاب، لأنه عندما يلغي المرسوم الدستور ويغير البرلمان ويحلّه، فلا يمكن الحديث عن قانون بل هي محاكمة سياسية بقوة الأمر الواقع وهي تستمر على ذلك الشكل وهي خاضعة للمحرار (المقياس) السياسي في البلاد". ولفت إلى أن "القاضي العسكري تخلى عن قضية العميد الكيلاني لعدم الاختصاص، ولكن تتواصل محاكمة مدنيين من قبل نفس القضاء بمجرد اختلاف المحرار السياسي، لأنّ الأمر متعلق بالرسائل السياسية المراد إبلاغها للخارج".
العلوي: دخلنا في منطق الغاب، لأنه عندما يلغي المرسوم الدستور، لا يمكن الحديث عن قانون بل هي محاكمة سياسية بقوة الأمر الواقع
وشدّد العلوي على أنّ "المعركة ليست حقوقية مثلما يُخيّل للبعض، وهي ليست معركة أفراد، بل معركة دولة قانون ومعركة دستور وشرعية". وبيّن العلوي أن "هذه محاكمات رأي والمحاكمات السياسية طاولت كل من لا يعترف بشرعية سلطة الانقلاب ولا يزال يقاومه، من نواب ومحامين وسياسيين وإعلاميين ومدونين". ولفت إلى أن الهدف من كل ذلك "معلوم وهو تخويف المعارضين والتخويف بهم ونشر الرعب في النفوس حتى يجعلك عبرة لكل نفس معارض، مهما كان شخصية اعتبارية، كالرئيس السابق (منصف المرزوقي) ورئيس البرلمان (راشد الغنوشي) الذي رغم سنّه ينكَّل به لساعات، والجميع محامون وقضاة رغم حصانتهم، تجرى محاكمتهم وتلفيق التهم لهم". وشدّد على أن "الغاية هي تخويف المواطن من مواجهة ماكينة الاستبداد والقمع العائدة بكل توحش".
سعيّد يمسك بالقضاء
بدوره، حذّر كاتب عام "محامون لحماية الحقوق والحريات"، مالك بن عمر، في تصريح لـ"العربي الجديد"، من أن "الوضع الحقوقي في تونس متردٍ جداً اليوم، دون أن يعني ذلك أنه كان أفضل سابقاً". وفسّر بن عمر وجهة نظره، بأنّ "الجهاز القضائي مباشرة بعد 25 يوليو/تموز 2021 لم يكن في يد رئيس الجمهورية، ولم يكن الأخير مسيطراً عليه وهو ما دفعه إلى اتخاذ إجراءات لحلّ المجلس الأعلى للقضاء ثم عملية العزل الواسعة التي شملت عدداً كبيراً من القضاة بأمر رئاسي دون العودة حتى إلى المجلس المؤقت الذي عيّنه بنفسه".
ولفت بن عمر إلى أنه "في الفترة الفاصلة بين بداية 25 يوليو 2021 وعزل القضاة، في يونيو/حزيران 2022، كان الرئيس يعتمد على القضاء العسكري في تصفية حساباته مع المعارضين السياسيين، من نواب وسياسيين وصحافيين مثل عامر عياد وصالح عطية، وذلك من أجل تصريحات ومواقف". وقال بن عمر: "نضيف على كل ذلك عمليات المنع من السفر العشوائية التي طاولت العشرات، والعدد الكبير من المحالين في قضايا التسفير والجهاز السري وكلها تصب في إطار تصفية حسابات سياسية". ولفت بن عمر إلى أنه "في ملف وزير الفلاحة السابق، محمد بن سالم، فإنه يجري التحقيق معه في ملف فارغ لا يتضمن جريمة، ولكن القضاء أصبح يخشى منذ قرارات العزل أن يحفظ ملفات حتى مفرغة من التهم، بل يقرر توجيهها للتحقيق ويحجر عن المتهم السفر".
وقال الكاتب العام لـ"محامون لحماية الحقوق والحريات"، إن "الجهاز التنفيذي في تونس أصبح مسيطراً على القضاء العدلي". ولاحظ أن "الرئيس قيس سعيّد ووزيرة العدل ليلى جفال، باتا يتحكمان بشكل كلي في القضاء"، مذكّراً بـ"قضايا عدة أُثيرَت أخيراً بتعليمات من جفال بسبب تصريحات، كملف المحامي والوزير السابق لزهر العكرمي، والأمين العام للتيار الديمقراطي السابق غازي الشواشي".
وأشار بن عمر إلى أنّ "هناك مناصرين للرئيس هم محل تحقيقات على غرار مجموعة المُحالين الـ25 في قضية أمن الدولة والتخابر، والتي تجمع شخصيات متناقضة". وبيّن أنّ "هذا الملف يمثل سابقة بإحالة قضية من الجزائي إلى القضاء العسكري". كما لفت إلى "التضييق الملحوظ على الحريات من خلال ممارسات وزارة الداخلية في ما له علاقة بالتظاهرات والاحتجاجات التي تواجهها بشكل قمعي".
تجرى محاكمة مدونين وصحافيين وناشطين وفق المرسوم 54
من جهته، اعتبر المحامي عمر السيفاوي في تصريح لـ"العربي الجديد" أنّ "وضع الحقوق والحريات في تونس متردٍّ جداً منذ انقلاب 25 يوليو 2021 إذ تزايدت التجاوزات والإخلالات من خلال تطويع الجهاز القضائي لتصفية المعارضين". ولفت إلى أن "حجم الضغوط والتعسف الذي عرفه القضاء يفسّر عدد الإحالات والقضايا التي تلاحق سياسيين وإعلاميين ومسؤولين".
وبيّن السيفاوي أيضاً أنّ "مسألة" حقوق الإنسان عرفت انتكاسة غير مسبوقة، فيما يجرى توظيف أجهزة الدولة من قبل الرئيس لبسط سلطاته". وذكر السيفاوي بـ"محاكمة الرئيس الأسبق، المرزوقي، والحكم الصادر في حق الأخير غيابياً"، واصفاً الحكم بـ"الفضيحة" و"المحاكمة السياسية الهدف منها ترهيب المعارضين وتخويفهم". ووضع هذه المحاكمات في إطار "التراجع الخطير في منظومة الحقوق والحريات التي جاءت بها الثورة وكرّسها دستور 2014، وتعبير عن إرادة سلطة الأمر الواقع في التفرد بالسلطات".
وفي بيانها الأخير في 10 ديسمبر الحالي حول وضع حقوق الإنسان في تونس، أكدت "الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان"، أن "مظاهر التراجع عن حقوق الإنسان كثيرة ومتنوعة، منها التراجع المسجل في مجال الحريات الفردية والعامة، من خلال إصدار مراسيم تتعارض وجوهر المبادئ السامية للشرعية الدولية لحقوق الإنسان، وحتى مع الخطاب الرسمي ذاته كالمرسوم 54 لسنة 2022 (المتعلق بجرائم الاتصال والمعلومات)". ويأتي ذلك بالنسبة للرابطة، "بالإضافة إلى تواصل محاولات التضييق على حرية التعبير والإعلام، وتعدّد الاعتداءات والتتبعات القضائية ضد الصحافيين المدونين".
وذكّرت الرابطة بـ"تواصل محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وتواصل ظاهرة الإفلات من العقاب ومحاولات ضرب استقلالية القضاء، وعدم الالتزام بتنفيذ قرارات المحكمة الإدارية والتأخير في إصدار الحركة القضائية، بالإضافة إلى التراجع الممنهج عن مبدأ المساواة التامة للمرأة". وتجلى ذلك، وفق شرحها، "في القانون الانتخابي الذي يقصي المرأة من حقها في المشاركة في الحياة السياسية والشأن العام"، وفق تقديرها.
وفي لقائه الأخير، يوم الجمعة الماضي مع الرئيس قيس سعيّد بمناسبة تهنئته والمكتب الجديد بعد انعقاد مؤتمر الرابطة، قال رئيس الرابطة، بسام الطريفي، إنه "أثار أثناء اللقاء الوضع الحقوقي المقلق في تونس على مختلف الأصعدة، وكذلك ضبابية المشهد السياسي وعدم استقراره، والذي بدا جليّاً من خلال ضعف نسبة الإقبال في الانتخابات الأخيرة".
وأضاف بيان صادر عن الرابطة، نشرته مساء السبت على صفحتها بموقع "فيسبوك": "في هذا السياق، ذكّر رئيس الرابطة بالانتهاكات المتكررة والاعتداءات على حقوق الإنسان وتواتر العنف البوليسي وتنامي ظاهرة الإفلات من العقاب".
ونبّه رئيس الرابطة، خلال اللقاء، إلى "مسائل عديدة أخرى تشغل بال أعضاء الرابطة لما لها من تأثير سلبي على واقع الحريات، من أبرزها محاكمات المدونين والصحافيين والناشطين تطبيقاً للمرسوم عدد 54 لسنة 2022، وما يتعرض له القضاء في تونس، لا سيما القضاة المعفيين الذين لم يعودوا إلى عملهم تنفيذاً لأحكام المحكمة الإدارية وتأخر إصدار الحركة القضائية (التبديلات والتعيينات)".
وأضاف البيان أن "رئيس الرابطة عبّر عن التخوف من تبعات الأزمة العامة التي تعيشها البلاد والمتمثلة خصوصاً في تردي الخدمات الأساسية في مجال النقل، الصحة، التعليم والعدل وغيرها من المرافق وارتفاع الأسعار وفقدان المواد الأساسية وتعطل عجلة الإنتاج والاستثمار". كما أبدى انشغاله، بحسب البيان، من عدم إفصاح الحكومة عن محتوى الاتفاقيات مع صندوق النقد الدولي والتي ستزيد في تدهور القدرة الشرائية للمواطنين وستساهم في رفع أسعار المواد الأساسية بسبب رفع الدعم. وللخروج من الأزمة التي تعيشها تونس على كافة المستويات، دعا رئيس الرابطة إلى "ضرورة عقد حوار وطني تشاركي".