اختار الرئيس التونسي، قيس سعيّد، في وقت متأخر أمس السبت، الرد بطريقة غير مباشرة على سيل المواقف الرافضة التي تواترت على مدى يومين، بعد بالون الاختبار الذي أطلقه مستشاره، وليد الحجام، بشأن إمكانية تعليق العمل بالدستور وتغيير النظام السياسي عبر استفتاء على نص تعده مجموعة من الخبراء.
وصدم ذلك الساحة السياسية في تونس، وأيقظها من سباتها العميق، ورفض ذلك التوجه حتى أقرب المقربين من الرئيس التونسي والمدافعين بشراسة على تفعيل الفصل 80 من الدستور.
ولمّح الرئيس التونسي إلى إمكانية تعديل الدستور، وذلك في إطار خططه غير المعلنة الرامية إلى تغيير النظام السياسي في البلاد، مشيراً في الوقت عينه إلى نيته الإعلان عن الحكومة "في أقرب الآجال".
وقال سعيّد، في تصريح له، إنه "سيتم الإعلان عن الحكومة في أقرب الآجال"، مضيفاً: "أسعى لاختيار الأشخاص الذين لا تشوبهم شائبة".
أولى ردود الفعل جاءت من حزب "التيار الديمقراطي" (مقرب من الرئيس)، بعدما أكدت النائبة سامية عبو أن حزبها "لا يختلف مع رئيس الدولة في أنه لا سبيل للعودة لما قبل 25 يوليو/ تموز، لكن يختلف معه في التشخيص وفي تحديد مفهوم الخطر الداهم".
ولجأ الرئيس التونسي إلى تفعيل الفصل 80 من الدستور، بعدما أعلن عن "إجراءات استثنائية" في 25 يوليو/ تموز الماضي، مثل تجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه، وإقالة رئيس الحكومة، هشام المشيشي.
وأضافت عبو في تصريح لإذاعة "شمس اف ام": "الإشكال في تونس اليوم ليس في النظام السياسي بل المشكل في منظومة الفساد، والطريق الذي توجه إليه أو ربما سيتوجه إليه رئيس الجمهورية هو طريق خاطئ بالضرورة، سيعيدنا إلى نفس المنظومة"، على حد تعبيرها.
وكان حزب "العمال" اليساري، الذي يتزعمه حمة الهمامي، قد أكد في بيان له أنّ "التلويح بتعليق الدستور واعتماد تنظيم مؤقت للسلط العمومية وتشكيل لجنة لصياغة دستور جديد بقرار فردي عملية خطيرة تفتح الباب للاستفراد التام بالسلطة والالتفاف على تطلعات الشعب ومكاسبه بما فيها التي حملها دستور 2014".
ودعا الحزب "كل القوى التقدمية من أحزاب ومنظمات وشخصيات إلى الوعي بخطورة ما يرتب في المكاتب المغلقة لأجل تمرير نظام استبدادي ودكتاتوري، وتوحيد الجهود للتصدي لأية ترتيبات محلية وإقليمية ودولية تهدف سواء إلى العودة إلى ما قبل 25 جويلية (يوليو) 2021 أو إلى ما قبل 14 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2011 (الثورة التونسية)".
وتوالت أغلب المواقف تقريبا على الشاكلة نفسها، رافضة تعليق العمل بالدستور. واعتبر الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل التونسي، سامي الطاهري، في تدوينة على صفحته بموقع "فيسبوك"، أن هناك "طريقين لا ثالث لهما، إما التشارك والحوار وطبعا وفق شروط، أو التفرد والديكتاتورية، وما سيفضيان إليه من خضوع نهائي إلى الإملاءات الخارجية".
وأمام هذه الموجة الرافضة، بِما تشكله من إحياء للمشهد التونسي المخدر منذ أكثر من شهر، اعتبر أستاذ القانون الدستوري ومؤسس شبكة "دستورنا"، جوهر بن مبارك، في تصريح لـ"العربي الجديد" أن "المنظمات والأحزاب والمجتمع المدني في تونس، وبعد الطريق المسدود والغموض في الرؤيا والتوجهات، بدأت مع مرور الزمن وتوضّح النوايا تستفيق وتنتبه وتطرح الأسئلة، خصوصا مع تصاعد الضغوطات، وبالذات الخارجية".
وأضاف: "بعد ما قاله مستشار الرئيس بشأن الدستور أعتقد أننا سندخل مرحلة جديدة، مع أن هذا لم يكن مفاجئا بالنسبة لي، لأن سعيّد كان يفكر في ذلك منذ البداية وهو لا يريد إصلاح النظام السياسي وإنما السيطرة عليه، وهذا سيقود إلى مرحلة فرز جديدة بعد توضح هذا البرنامج".
وتابع قائلا: "أمام هذا التوجه، أعتقد أنه يمكن أن تتشكل جبهة جديدة مع أنها تبقى إلى حد الآن محتشمة، ثم إنها جاءت متأخرة جدا، وخسرنا وقتا ثمينا أخشى أن يكون من الصعب استرداده، مع أنه ينبغي التنويه أيضا إلى أن بداية الصحوة هذه موجودة لدى السياسيين فقط وليس في الأوساط الشعبية".
وتتزايد الضغوط ليس من الداخل فحسب، بل خصوصا من الخارج، وأورد الخبير لدى المنظمات الدولية ومسؤول مكتب المغرب العربي للشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان، رامي الصالحي، على صفحته بـ"فيسبوك" جدولا زمنيا لما يمكن أن يشكل خارطة طريق، تتضمن حلّ البرلمان ثم تعيين رئيس حكومة في اليوم التالي والإعلان عن حكومة مصغرة في حدود يوم 21 سبتمبر/ أيلول مع الاحتفاظ بالوزراء الذين تم تعيينهم بعد 25 يوليو/ تموز وتقديم مشروع دستور جديد قبل آخر أكتوبر/ تشرين الأول وتشكيل لجنة خبراء للنظر في مشروع الدستور الجديد إلى حدود آخر نوفمبر/ تشرين الثاني و قانون انتخابي جديد في آخر نوفمبر/ تشرين الثاني والاستفتاء على الدستور الجديد في يناير/ كانون الثاني 2022، وإذا نجح الاستفتاء المرور إلى انتخابات تشريعية في إبريل/ نيسان 2022.
وقال الصالحي إن هذه النقاط يتم تداولها بشكل غير رسمي للاستشارة وإطلاق بالونات اختبار في الداخل والخارج، موضحا في تصريح لـ"العربي الجديد" أن هناك "إنذارات متتالية من المانحين والمراقبين بأن الوضع في تونس يتجه لأزمة كبيرة، وأنه بخلاف الإمارات ومصر والسعودية، وفرنسا بشكل متخف، فإن موقف السبعة الكبار لأول مرة بذلك الشكل، جاء ليعكس توافقا أميركيا أوروبيا حول تونس".
وكان سفراء الدول السبع في تونس، قد شددوا في بيان مشترك على "الحاجة الماسّة لتعيين رئيس حكومة جديد، حتّى يتسنّى تشكيل حكومة مقتدرة تستطيع معالجة الأزمات الراهنة التي تواجه تونس على الصعيد الاقتصادي والصحي، وهو ما من شأنه أن يفسح المجال لحوار شامل حول الإصلاحات الدستورية والانتخابية المُقترَحة".
وأضاف الصالحي قائلا: "ثم جاء موقف البرلمان الدولي الذي وجه رسالة واضحة في دعم البرلمان التونسي من خلال توجيه دعوة لرئيس البرلمان التونسي (راشد الغنوشي) برغم التجميد، ثم التصفيق بعد كلمة النائب أسامة الخليفي، ثم موقف الممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية، جوزيب بوريل، الذي دعا إلى عودة النشاط البرلماني".
وأردف: "هذا للأسف تدخل في الشأن التونسي، ولكن ليس لتونس خيار حقيقي آخر أمام الوضعية الاقتصادية الصعبة، ولا بد أن تتفاوض وتناور معهم بكثير من الحكمة لإيجاد مخرج لأزمات البلاد، خصوصا أمام ملفات الهجرة والإرهاب وانعدام الاستقرار في المنطقة بما يحمله ذلك من تأثير على الوضع في ليبيا والجزائر، وتونس رابط مهم ومحطة ضرورية في ذلك لا يُقبل أن تهتز وتذهب إلى المجهول".
وحول جدل التعبير عن الإرادة الشعبية الذي يتواصل في تونس، قال الصالحي إن "الناس خرجت مع قيس سعيّد للقطع مع ذلك الوضع المزري الذي كان موجودا في البرلمان والساحة السياسية، ولكن ذلك لا يعني أن كل التونسيين يساندونه، وحتى الذين يساندونه فلا يساندونه في كل شيء، وهناك اليوم نوع من الاستفاقة".
وأوضح "بدأت تتشكل استفاقة ووعي بما يحدث بالفعل، وكانت هناك عوامل تفسر صمت الكثير من الأحزاب ومواقفها السلبية إلى حد الآن، أولها أن هناك كرها للنهضة يحرك البعض كأولوية استراتيجية لهم، وهذا فيه طبعا قصر نظر، والجزء الثاني أن بعض الأطراف تحركها الانتهازية السياسية وتتصور أن هناك إعادة تدوير للمشهد السياسي وللمواقع في الدولة، وهناك أخيرا عامل الخوف الذي أربك العديد من الفاعلين في البلاد".
وتوجه شخصيات تونسية انتقادات كبيرة لمواقف الأحزاب التونسية وارتباكها الواضح والمتواصل منذ شهر ونصف. وكتب المحلل السياسي حبيب بوعجيلة على صفحته بموقع "فيسبوك" تدوينة جاء فيها: "أؤكد أن سؤالا أخلاقيا ووجوديا يطرح على النخبة التونسية ومجمل الطبقة السياسية مثل شوكة في بؤبؤ العين: معارضة حزبية لا يقل عمرها عن خمسين سنة اذا حسبنا بداية تشكل تياراتها الكبيرة منذ اواسط الستينيات وأوائل السبعينيات وحركة حقوقية عمرها لا يقل عن اربعين سنة اذا حسبنا بعمر ولادة الرابطة ...حركة طلابية عريقة ..مثقون ...أكاديميون ...أكبر نقابة عمالية في أفريقيا منذ أكثر من سبعين عاما ...إعلام حر إلى أنفه منذ عشر سنوات وآخر شريف منذ نفس عمر الحركة المعارضة والحقوقية ...ثورة وانتقال ديمقراطي ودستور وهيئات وقطاعات تحررت ........ كل ذلك .......كل ذلك ...عندنا أكثر من شهر ونصف الجميع ينجم ويدقز ويقرأ الفنجان ليعرف ماذا سيقرر فرد واحد أوحد للبلاد ".
وأضاف: "كل ذلك والجميع لا يعرف من يستطيع من هذا الشعب المليوني أن يركب طائرة أو باخرة إلى خارج البلاد ومن لا يستطيع، فهل هناك فضيحة لهذه الطبقة والنخبة أكثر من هذه؟".