في حين تتجه تونس نحو تنظيم استفتاء- يعتقد الرئيس قيس سعيّد بأنه سيكون "موعداً مع التاريخ"- ترى فيه أطراف أخرى، من بينها المعارضة، مناسبة لهدر الوقت والمال من أجل تثبيت الحكم الفردي.
وعلى الرغم من أن الرئيس فتح الطريق أمام الفريق الجديد لهيئة الانتخابات، الذي سيتولى الإشراف على هذه المناسبة، وأيضاً على الانتخابات التشريعية المقبلة نهاية هذه السنة، إلا أن مسائل عديدة، تشريعية وتنظيمية، بقيت غامضة حتى الآن.
وولّد هذا الأمر خلافات بين أعضاء هذه الهيئة، وكشف عن وجود ارتجال وبطء في اتخاذ المواقف، ما سيعطّل وضع إجراءات من شأنها تحريك الوضع السياسي العام. بل أهم ما كشفت عنه الجلسة الأولى، المنقولة مباشرة على الهواء، هو تعميق التشكيك في استقلاليتها. بناء عليه، يبقى الغموض يحيط بالعملية السياسية من مختلف الجوانب.
يروج بعض الخبراء القريبين من سعيّد أن العمل لا يزال متواصلاً بوثيقة الدستور
سيحصل استفتاء التونسيين حول الدستور الجديد، لكن الأخبار المتعلقة بهذه المسألة لا تزال متضاربة وغير واضحة. هناك من يقول إن وثيقة الدستور جاهزة، أو إن صياغتها تنتهي قريباً.
تواصل العمل على وثيقة الدستور
أما الرواية الثانية، التي يروّج لها بعض الخبراء القريبين من سعيّد، فتشير إلى أن العمل لا يزال متواصلاً، وأن أطرافاً ستتم استشارتها في العديد من المسائل. وهو ما يدل على الارتباك وعدم وجود خطة محكمة في قضية خطيرة تتعلق بمراجعة الدستور، الذي لم يعد يفصل عن موعد التصويت عليه سوى أسابيع قليلة.
أما الأشد غرابة في هذه القصة المثيرة أن التونسيين سيُدعون يوم 25 يوليو/تموز المقبل للإجابة بنعم أو لا عن وثيقة استراتيجية تهم مستقبل البلاد، لم يدر حولها نقاش عام، واستبعدت الأحزاب والمجتمع المدني من المشاركة في تعديلها أو صياغتها.
وحتى يرد الرئيس على المشككين، فقد أعلن عن تأسيس "الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة"، التي ستتولى إكمال صياغة الدستور، وستشرف على إدارة الحوار بعد اختيار من سيشارك فيه.
علاقة قيس سعيّد بالزمن توتر الجميع
لا تزال علاقة سعيّد بالزمن توتر أعصاب المؤيدين له أكثر من الخصوم. فالأجندة التي وضعها بنفسه، والتي بموجبها عدّل الجميع، في الداخل والخارج، عقارب ساعاتهم بناء عليها، تواجه ضغطاً شديداً بحسب النسق السلحفاتي الذي تتسم به حركة الرئيس، وكأن الوقت لا يعنيه كثيراً. المهم عنده أن الجميع سيتقيّدون بالإيقاع الذي يفرضه عليهم، مثلما فرض عليهم الأجندة التي وضعها للبلاد، في حين أن حلقات السلسلة مترابطة في ما بينها.
فنتائج الاستفتاء ستكون محددة لإضفاء المصداقية عليه، ومعرفة التغييرات التي سيدخلها على نص الدستور ستكون محددة للحكم نهائياً على مشروعه السياسي. وما سيعرضه على التونسيين من تنقيحات دستورية سيحدد درجات التفاعل الشعبي مع سعيّد، الذي يعتقد بأن تغيير الدستور هو العصا السحرية التي ستشق البحر، وستعالج مختلف المعضلات التي تحاصر التونسيين من جميع الجهات.
أما بالنسبة للحوار الوطني الذي كان يتوقع عميد المحامين أنه سينطلق خلال ساعات فقط، فإنه بقي يراوح مكانه، بسبب عدم الاتفاق مع اتحاد الشغل، وهو ما جعل المحادثات مع صندوق النقد الدولي متوقفة في انتظار اكتمال شروطه.
معركة قيس سعيّد مع اتحاد الفلاحين
لا يتوقف الخلاف عند حدود النقابات العمالية، وإنما دخلت رئاسة الجمهورية أيضاً في معركة مفتوحة مع اتحاد الفلاحين؛ إذ طلب سعيّد من أحد مساعدي رئيس الاتحاد تطهير منظمتهم، عبر التخلص من الرجل الأول في المنظمة (عبد المجيد الزار)، وهو ما تم فعلاً، إذ عُقد اجتماع داخلي استثنائي شاركت فيه أقلية من الأعضاء. غير أن الأغلبية دانت هذا الانقلاب، واعتبرته غير شرعي، وبذلك انطلقت معركة جديدة قد تطول وتتعقد وقائعها.
أما الهيئة الوطنية للمحامين، فقد أصدرت من جهتها بياناً خالفت فيه المواقف التي أعلن عنها عميد المحامين إبراهيم بودربالة، وطالبت بوضع شروط، قبل المشاركة في الحوار الذي دعا إليه سعيّد، حتى لا يكون هذا الحوار "صورياً". وللمحامين تاريخ طويل في الدفاع عن الديمقراطية والحريات.
والأمر كذلك بالنسبة للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، التي اعتبرت بدورها أن مشاركتها في الحوار مشروطة بتوفير مكوناته.
العلاقة مع واشنطن تزداد سوءاً
يضاف إلى ذلك أن العلاقة مع واشنطن تزداد سوءاً، بسبب الأوضاع السياسية الداخلية، ما يفسر تخفيض المساعدات الأميركية المقدمة سنوياً لتونس. وحتى البرلمان السويسري المعروف بالحيادية، ضاق ذرعاً بما يجري في تونس، إذ ناقش عريضة وصفت بما حدث يوم 25 يوليو في تونس بـ"الانقلاب".
علاقة سعيّد بالزمن توتر أعصاب المؤيدين له أكثر من الخصوم
كما أن البنك المركزي بدأ يشعر بالخطر، فعبّر عن عميق انشغاله إزاء تصاعد المخاطر بآفاق تطور التضخم، ما جعله يرفع الفائدة المديرية 75 نقطة إلى 7 في المائة. وهو قرار من شأنه أن يزيد من حدة الاختناق الذي يعاني منه عموم المواطنين، بسبب ارتفاع الأسعار، آخرها أسعار الطاقة والكهرباء.
الاستعداد لجولة جديدة من الاحتجاجات في تونس
وهو ما دفع بتنسيقية الحركات الاجتماعية إلى الاستعداد لخوض جولة جديدة من الاحتجاجات. ودعت الجميع إلى "توحيد الصفوف، من أجل الوقوف سداً منيعاً ضد خيارات هذه الحكومة اللاشعبية واللاوطنية الراضخة لمطالب صندوق النقد الدولي".
في حراك موازٍ، وجدت المعارضة المناخ مناسباً لتعزيز صفوفها وتصعيد تحركاتها. كثفت "جبهة الخلاص الوطني" مشاوراتها وتحركاتها الاحتجاجية، وكان آخرها التجمّع الذي نظمته في 15 مايو/أيار الحالي، والذي كشف عن نَفَس نضالي أقر بأهميته المراقبون. وقد تشهد الأيام المقبلة انضمام أحزاب وتجمعات سياسية إلى هذه المبادرة، على الرغم من الانتقادات التي توجه إليها من قبل البعض.
وإذ عادت بعض الأصوات المنادية بتدخّل الجيش لحسم الأوضاع وإنقاذ المسار الديمقراطي، فإن قيادة "الجبهة" متمسكة بضرورة تحييد المؤسسة العسكرية، ولم تقدح إلى حد اللحظة في شرعية سعيّد كرئيس منتخب، وتدعوه إلى حوار وطني "حقيقي وجدي"، فإن أبى فستعمل على إنجازه بدون مشاركته. وهي مصرّة بالخصوص على اعتماد الوسائل السلمية والشرعية لتعديل موازين القوى وتغيير الأوضاع، وإلغاء أجندة سعيّد.