صُدم المتابعون للشأن التونسي من ضعف الإقبال على انتخابات 17 ديسمبر/كانون الأول، والعزوف اللافت للتونسيين عن المشاركة في عملية الاقتراع، وسط ذهول المرشحين والمنظمين للانتخابات.
وبعد أن كانت هيئة الانتخابات قد أعلنت في ندوة صحافية، السبت، يوم إجراء الانتخابات، أن نسبة المشاركة كانت في حدود 8.8 بالمائة، قالت الأحد إن هذه النسبة بلغت 11.22 بالمائة، حيث بلغ العدد الجملي للناخبين الذين أدلوا بأصواتهم مليوناً و25 ألفاً و418 ناخباً، من جملة أكثر من 9 ملايين و200 ألف ناخب.
ويتوزع المشاركون من الأحزاب في انتخابات 17 ديسمبر على 5 كيانات سياسية منتظمة في أحزاب وحركات ومبادرات سياسية، حيث شارك حزب "حركة الشعب" (قومي ناصري - 15 نائباً في البرلمان المنحل) بـ85 مرشحاً، من بينهم 5 برلمانيين سابقين.
وترشح ائتلاف "لينتصر الشعب" (يضم حزب التيار الشعبي، وحزب البعث، وقيادات سابقة من اتحاد الشغل، وبرلمانيين سابقين من نداء تونس) في 154 دائرة انتخابية، ما عدا تلك الخالية من مرشحين، وهي 7 دوائر خارج البلاد.
وترشح حراك "25 جويلية" بدوره في 154 دائرة انتخابية، بينما ترشح ائتلاف "الشعب يؤسس" (مؤيد للرئيس قيس سعيد، وقاد حملته الرئاسية باسم تنسيقيات الشعب يريد) في 35 دائرة.
وقاطعت غالبية الأحزاب السياسية الوازنة الانتخابات، وفي مقدمتها "جبهة الخلاص"، التي تضم أحزاب "النهضة"، و"الكرامة"، و"قلب تونس"، و"العمل والإنجاز"، و"حراك الإرادة"، و"المؤتمر من أجل الجمهورية"، و"وفاء" (...) وشخصيات وطنية، بالإضافة إلى مجموعة الأحزاب الاجتماعية الخمسة، المتمثلة في "التيار الديمقراطي"، و"الجمهوري" و"العمال" و"القطب"، و"التكتل"، كما قاطع الانتخابات "الحزب الدستوري الحر"، و"آفاق تونس"، و"الاتحاد الجمهوري الشعبي"، و"تحيا تونس"، وتمثل هذه الأحزاب المقاطعة أكثر من 90% من تركيبة البرلمان المنحل.
"صفعة قوية"
وقال عضو مجلس شورى حزب "النهضة"، (عضو جبهة الخلاص المقاطعة للانتخابات) محسن السوداني، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "رئيس الانقلاب ومن سانده من الشخصيات والأحزاب جميعهم يتحمّلون المسؤولية في فشل الانتخابات. هذا مسار فاسد سياسياً وغير شرعي بالمرة". وأضاف: "لقد أرادوا، شأن كلّ الانقلابيين بعد الاستحواذ على السلطة، أن يضفوا على الوضع القائم شرعية، غير أن مقاطعة الشعب التونسي لهذه الانتخابات الشكلية، والتي فاقت نسبة 90%، كانت صفعة قوية جداً. هذه المقاطعة رسالة بليغة مفادها رفض المسار الذي سلكه قيس سعيّد".
وبيّن السوداني أنه "يفترض بعد هذا الفشل الذريع أن يكون قيس سعيّد متطابقاً مع ذاته ويتنحّى فوراً، فقد تحدث كثيراً، على غير وجه حقّ، عن الدعم الشعبي الذي يحظى به، وعن أنه يصدر في أفعاله عن شرعية شعبية، ولكنه فشل مرتين: الأولى حين عجز عن تحشيد الناس وتعبئتهم لمساندته عبر التظاهر في الشارع، حيث لم ينجح في ذلك إطلاقاً؛ والثانية حين قاطع الشعب التونسي هذه الانتخابات ولم يستجب لنداءاته المتكررة".
وخلص إلى أن ''المقاطعة رسالة بليغة للانقلاب، إذا لم يلتقطها على الفور ويترشّد، فسوف يستحيل عليه التدارك في مرحلة لاحقة، وقد يفهم، ولكن بعد فوات الأوان كما حصل مع (الرئيس المخلوع زين العابدين) بن علي. حينها لن يصدّقه أحدٌ".
من جهته، أكد نائب رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ماهر الجديدي، في تصريح إذاعي، أن "دعوات المقاطعة أثّرت تأثيراً كبيراً على نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية"، مشيراً إلى أن الأحزاب المعروفة قاطعت الانتخابات، وهذه الأحزاب لها منخرطوها الذين التزموا بقرار المقاطعة، وكذلك المرشحون غير معروفين، خصوصاً في المدن ذات الكثافة السكانية على غرار تونس الكبرى"، لافتاً إلى أنه "لو شاركت الأحزاب في الانتخابات لقامت بالتعريف عن مرشحيها للناخبين".
كما أشار نائب رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات إلى أن "الأحزاب التي شاركت في الانتخابات التشريعية مهمة، لكن ليس لها وزن كبير".
وتختلف أسباب تدني نسب المشاركة بحسب الأحزاب والخبراء والمتابعين، بين عزوف الناخبين عن الشأن العام بسبب خيبة الأمل من السلطة الحاكمة، وكذلك دعوات المقاطعة الحزبية، وتعكر الوضع السياسي، وتردي الوضع الاجتماعي والاقتصادي.
كذلك يحمّل طيف واسع، الرئيس، مسؤولية ضعف المشاركة، وكذلك المرشحين والأحزاب والحركات المساندة للرئيس، في عدم قدرتها على حشد الناخبين وإقناعهم بالذهاب للانتخابات.
رسالة لسعيّد والحكومة
ولفت المتحدث باسم حركة "الشعب" (مساندة لسعيّد) أسامة عويدات، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ "الحركة رشحت في حدود 85 شخصاً، وفاز مرشح وحيد من الحزب منذ الدور الأول". واعتبر أن "ضعف المشاركة والإقبال لا يعود إلى تقصير الأحزاب والمرشحين خلال الحملة الانتخابية، بل هي رسالة وُجّهت لرئيس الجمهورية والحكومة في علاقة بالوضع الذي تمر به البلاد من أزمة اقتصادية واجتماعية".
وأوضح أن "25 يوليو/ تموز 2021 قام من أجل مطالب اجتماعية، وهذا الجانب لم نتقدم فيه، وفي نفس الوقت الإجراءات التي قامت بها الحكومة لم تتضمن طابعاً اجتماعياً، وبالتالي شعر الناس بأن العملية السياسية لا تعنيهم وأن مطالبهم لم تلبَ".
وبيّن عويدات أن "حالة العزوف هي رفض لما حدث، وهذا ما يفسر ضعف المشاركة، وليس بسبب دعوات المقاطعة" مشيراً إلى أن "النسب تقاس من جملة 9 ملايين ناخب، وليس على نفس العدد الذي كان سابقاً وبالتالي هذا سيجعل النسب أقل مما كانت".
واعتبر أن "دعاة المقاطعة ليست لديهم القدرة للتأثير على الناخبين ولو كانوا قادرين على الحشد لأسقطوا الدستور في الاستفتاء، ومن المبالغة اعتبار العزوف مقاطعة، لأن التونسيين مع مسار 25 يوليو، ولكنهم غاضبون على كيفية إدارته".
حملة باهتة
أمّا رئيس المكتب السياسي لحراك "25 جويلية" (مساند لسعيّد)، عبد الرزاق الخلولي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، فأشار إلى أن "مرد ضعف الإقبال يعود إلى الفكرة المترسخة لدى التونسيين حول البرلمان السابق، بعد ترذيل الأحزاب للحياة السياسية والبرلمان السابق، وأن الخطر الداهم آتٍ من البرلمان ومن مشاكله ومن السياسيين، وازداد عندهم الشعور بأنه لا قيمة للبرلمان ولنوابه ولوعودهم الزائفة".
وتابع: "من خرجوا في 25 يوليو 2021، قالوا للرئيس لا رغبة لنا في برلمان، وكل الصلاحيات بيدك، وذلك جراء الصدمة من البرلمان السابق، وأرادوا رئيساً يقود المركب ويصلح البلاد ويكون منقذاً". وأضاف الخلولي أن "الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وغلاء المعيشة، والضغوطات اليومية للمواطن عززت هذا العزوف".
وأشار إلى أن "نظام الاقتراع الجديد على الأفراد هو نظام لم يجربه التونسيون قبلاً، بالإضافة إلى أن الحملة لتشجيع المواطن على الاقتراع لم تكن فاعلة وكانت باهتة". وبيّن أن "غياب التمويل العام، واعتماد المرشحين على إمكانياتهم الذاتية، قادا إلى مشهد يغيب عنه المال السياسي، وغياب تمويل الأحزاب، وغياب شراء الذمم والعطايا".
ونفى الخلولي أن "تكون نسب المشاركة استجابة لدعوات المقاطعة من المعارضة، فهم غير مسموعين لدى الناخب التونسي"، مؤكداً أن "العزوف خيار تلقائي، فهناك شيء من الغضب بسبب طول الانتظار، وعدم رؤية ثمار 25 يوليو وعدم تحسن الأوضاع الاجتماعية". وتابع أنه "تشكل مزاج شعبي مفاده أنه لا خير في القدامى ولا خير في قيس سعيّد لتحسين أوضاعهم وفي تحقيق نتائج".
ولفت إلى أن الحراك فاز في 10 مقاعد من جملة 21 مقعداً في الدور الأول، أي بنسبة تقارب 50%، بينما هناك 65 مرشحاً مروا إلى الدور الثاني".
إلى ذلك، بيّن القيادي في حراك "الشعب يؤسس" (مساند لسعيّد) عبد الحميد أولاد علي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "الأزمة الاقتصادية كان لها الأثر السلبي على المواطن، خاصة في الاهتمام بالشأن العام السياسي، فمن عجز عن توفير رغيف لأسرته لا يهتم بهكذا انتخابات".
وانتقد أولاد علي القانون الانتخابي، مبيناً أنه "لا يكفي أن يتغير النظام الانتخابي شكلاً، وتبقى نفس الممارسات في الحملات الانتخابية كما كان يحدث مع الأحزاب". وأشار إلى أن "الانتخاب على الأفراد حتى يكون مرضياً عنه، ويُحدث الفارق في تحفيز الشعب على الاهتمام بالشأن العام والمشاركة في الحياة السياسية، لابد أن يقطع كلياً أي علاقة مع سلوك انتخابي يئس من سماعه أبناء شعبنا".
واعتبر أولاد علي أن "الخطأ الذي انساق وراءه غالبية المرشحين، أنهم كتبوا لوحدهم وبأنفسهم بيانات ووعوداً لا تختلف عن النمط، بينما الأجدر أن تكون العملية الانتخابية عكسية، يكون فيها أفراد الجهة هم من يحددون مطالبهم بمبدأ تشاركي فيما بينهم، وما على المرشح إلا التوفيق بين كل المطالب، ووضعها كبرنامج وميثاق بينه وبين أبناء منطقته، يكون لزاماً عليه تحقيق ما أمكن من استحقاقات ومطالب فيه".
ورأى أن "ما حدث جميل كأول تجربة في سنة أولى ديمقراطية اجتماعية، فيها توسيع لدائرة التثقيف السياسي، وكان بالإمكان أن يكون أفضل مما كان. ومع اكتساب التجربة ستكون هناك مشاركة فعالة عندما يعي المواطن طبيعة العلاقة بينه وبين الحاكم، والتي ينبغي أن تكون تشاركية في القرار والبناء".
وتابع: "بالنسبة للذين يصطادون في المياه العكرة، نقول لهم سنتدرب على سياسة لم تتعلموها وسيخرج من رحم شعبنا عباقرة يقودون البلد، نعم عباقرة كنتم حريصون على تقزيمهم بسياسة الوصاية والوكالة، وأذكركم أن الديمقراطية الحقيقية تعني سلطة الشعب وان إرادة الشعوب لا تقهر".
وتنافس السبت 1058 مرشحا وفق نظام الاقتراع على الأفراد، على 154 مقعداً من أصل 161 مقعداً بمجلس نواب الشعب، بعد أن لم تُسجل ترشيحات في 7 دوائر خارج تونس.
وأعلنت الهيئة أنه سيتم تنظيم دور انتخابي ثانٍ في 131 دائرة انتخابية، فيما فاز 21 مرشحاً من الدور الأول، من بينهم 10 نواب فازوا دون منافسة، باعتبارهم ترشحوا بمفردهم.