دخلت تونس يوم الجمعة 14 يناير الحالي (أول من أمس)، مرحلة جديدة في الصراع الدائر بين سلطات الانقلاب والمعارضين لها، أبرز ملامحها توسع جبهة الطيف المناهض لخيارات الرئيس قيس سعيّد، فيما تحوّلت السلطة من التضييق والمنع إلى العنف والقمع المباشر ضد المعارضين.
معارضو قيس سعيّد تحت خيمة واحدة
واتهمت أحزاب ونشطاء سياسيون، الرئيس التونسي، باستحضار آلات قمع الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي في مواجهة المعارضين له، الذين تمسكوا أول من أمس بإحياء ذكرى الثورة التونسية. من جهته، دفع سعيّد المعارضين له، إلى التجمع تحت خيمة واحدة في عيد الثورة، في الشارع الرمز لإسقاط ديكتاتورية بن علي، شارع الحبيب بورقيبة، كما تسبب في شحذ عزائم رافضي الانقلاب مع المدافعين عن الثورة والمتمسكين بالديمقراطية، للنزول والاحتجاج.
وتعد التظاهرة أول من أمس، الأولى منذ قرارات سعيّد الانقلابية في 25 يوليو/تموز الماضي، التي ينزل فيها طيف سياسي متنوع إلى الشارع، في المكان نفسه وللغايات والأهداف نفسها، ليتعرض المعارضون باختلاف انتماءاتهم إلى العنف أثناء عملية تفريقهم والتصدي لهم من قبل القوات الأمنية.
العجمي الوريمي: الانقلاب ورّط وزارة الداخلية في الاستخدام المفرط للقوة
وجمعت الأزقة المحاذية لشارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة، تيارات سياسية وحزبية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وعلى الرغم من خيار الأحزاب والائتلافات عدم الالتحام، والتفرقة بين أنصار حزب العمال اليساري من جهة، والأحزاب الاجتماعية (التيار الديمقراطي والحزب الجمهوري والتكتل من أجل العمل والحريات) من جهة أخرى، وحزب النهضة و"مواطنون ضد الانقلاب" في مكان ثالث، إلا أن إسقاط الانقلاب كان شعاراً موحداً بين المجموعات المتباعدة.
انكشاف الوجه القمعي للانقلاب
وأكد القيادي في "النهضة"، أحد المضربين عن الطعام رفضاً للانقلاب، العجمي الوريمي، لـ"العربي الجديد"، أن "الانقلاب كشف عن وجهه القمعي من خلال منع تظاهرات الاحتفال بعيد الثورة في ذكراها الحادية عشرة، وورّط وزارة الداخلية في الاستخدام المفرط للقوة في مواجهة متظاهرين سلميين أرادوا التعبير عن تمسّكهم بأهداف الثورة ومكتسباتها ورفضهم للانقلاب وتداعياته".
ورأى الوريمي أن "قيس سعيّد كشف عن خوفه من الشارع ومن غضب الشعب الذي يريد التظاهر والاحتفال والاحتجاج"، مشدداً على أن "سلطة الأمر الواقع لم توفق في إطفاء شعلة الثورة، على الرغم من محاولة طمس ذكراها والسطو على محطاتها وتاريخها".
ولفت الوريمي إلى أن "سعيّد وضع نفسه خارج وقائع الثورة ومجدها، المستمرة على الرغم من الخيبات"، مضيفاً أن "الانقلاب في عزلة سياسية ومأزق حقيقي، بعدما أصبح من يعارضه ليس فقط من رفض إجراءات 25 يوليو عند إعلانها، بل حتى الأطراف التي ساندت سعيّد في البداية ظناً منها أنه يعمل على تصحيح المسار، حتى تبين لها أنه ساع في إرساء حكم فردي استبدادي خارج الأطر الدستورية".
وشدّد القيادي في "النهضة"، على أن "سعيّد لا يؤمن بدور الأحزاب والمنظمات والأجسام الوسيطة بصفة عامة، وهو ينزع إلى الاستحواذ على جميع السلطات وإخضاع الأجهزة الأمنية والعسكرية لإرادته وسلطته".
ورأى أن زجّ الرئيس بهذه الأجهزة في الصراعات السياسية والتجاذبات الحزبية "لا يخرجها فقط عن الحياد والمهنية التي يقتضيها النظام الجمهوري والديمقراطي، إنما ينسف ما تحقق لها بعد الثورة من رصيد من الثقة والمصداقية لدى الشارع التونسي".
وأكد الوريمي أنّ "ما حصل في ذكرى الثورة من قمع للاحتفالات باستخدام مفرط للقوة ضد متظاهرين سلميين وعزل، يعد نسفاً لتلك المكاسب، وفضيحة أمام الشعوب المتحضرة والبلدان الديمقراطية". واعتبر أن "الدفع إلى مواجهات بين الشعب وبين القوى الصلبة هو من دون شكّ لعب بالنار وبمصير الوئام الوطني، وانتكاسة للإصلاحات التي تعافت بها المؤسسة الأمنية واستعادت بها ثقتها بنفسها وبدورها في حفظ الأمن وحماية الحريات".
كما أكد القيادي في "النهضة"، على أن "المسيرة عمقت الشرخ بين قصر قرطاج وبين الشعب، وأعطت المبرر لقوى المعارضة كي توحد الموقف تجاه الانقلاب وسلطة الأمر الواقع، حتى وإن احتفلت بذكرى الثورة تحت عناوين مختلفة وفي مربعات متعددة".
جهود لتوحد المعارضة
وفي هذا السياق، لفت الوريمي إلى أن "جهوداً لتقريب وجهات النظر بذلت خلال أسابيع ثلاثة من الإضراب عن الطعام الذي خاضه مناضلون ونواب شعب وشخصيات وطنية، حيث حصلت نقاشات صريحة وجدية تمحورت حول المراجعات وتصحيح الأخطاء وإرساء أرضية سياسية على قاعدة المشترك والإعداد لتشكيل جبهة سياسية واسعة تقاوم الانقلاب وتعمل على عودة الديمقراطية وتؤسس لبديل سياسي ومشروع وطني مستقبلي لما بعد عودة الديمقراطية".
ويرى مراقبون أن يوم 14 يناير 2022 تحوّل من يوم احتفال إلى يوم أسود في تاريخ تونس ما بعد الثورة، إذ تم استعمال أدوات القمع البوليسي بمختلف أشكالها في وجه المتظاهرين السلميين.
وقال المتحدث باسم حزب "حراك تونس الإرادة"، عمر السيفاوي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "سلطات الانقلاب كشّرت عن أنيابها وكشفت عن آلة القمع، ودخل الصراع طوراً جديداً من منع المعارضين من ممارسة حقوقهم في التعبير والتظاهر السلمي والاحتجاج، إلى مرحلة القمع الممنهج والعنف المادي لكل المعارضين من دون استثناء حتى من رحبوا في البداية بـ25 يوليو".
رفيق عمارة: المتظاهرون ينتظرون من المعارضين الالتقاء حول برنامج سياسي لفترة ما بعد سعيّد
ورأى السيفاوي أن "14 يناير وحّدت المعارضين باختلاف أطيافهم على رفض الانقلاب والتصدي للانفراد بالحكم، بل وعلى الوفاء للثورة والسعي لاستعادة الديمقراطية المسلوبة". وأضاف أن "14 يناير كشف زيف سردية الانقلاب والدعم الشعبي المزعوم، فالشعب يريد ما لا يريده سعيّد، يريد عودة الديمقراطية ورحيل الانقلاب".
من جهته، سجّل القيادي في حزب "قلب تونس"، رفيق عمارة، "انطلاقة جديدة في مقاومة الانقلاب بعد 14 يناير، تتطلب تفكيراً وتدبيراً سياسياً من المعارضة بمستوى ما أبدته الجماهير الشعبية من الوعي والتضامن والالتفاف حول الديمقراطية".
ورأى عمارة، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ "الشارع السياسي والحركة المواطنية عبّرا عن التمسك بالديمقراطية والصلابة في التصدي للانقلاب، على الرغم من التخوين والتخويف والترهيب".
وشدّد عمارة على أن "رسائل الجمعة يجب أن يلتقطها المعارضون قبل المساندين، فالشعب الذي نزل لاستعادة الديمقراطية تلبية لنداء الأحزاب وحركات التحرر من الانقلاب، صمد في وجه آلة القمع وقدم درساً في وحدة الصف للمعارضين". واعتبر أنه "إذا لم يستخلص المعارضون الدرس ويلتفوا حول ما بقي من الديمقراطية المنتهكة، فإن الشعب الذي نزل يوم الجمعة سيلفظ الجميع مستقبلا".
كما نبّه القيادي في "قلب تونس"، إلى أن "من لبّوا نداء الديمقراطية يوم الجمعة ينتظرون من المعارضين أن يلتقوا حول برنامج سياسي ومشترك مستقبلي واضح لفترة ما بعد سعيّد". أما ما هو أهم الآن، فهو برأيه "إدارة الاختلاف وحوار بين المعارضة والتقاط رسائل الشعب، وعدم التعويل على سلطة الانقلاب حتى تراجع نفسها وتتلقى صدى الشارع، لأن الانقلاب لا يصغي إلا لنفسه ولرجع صداه، ظاناً أنه يمتلك الحقيقة الكاملة والحق في تقرير مصير الأحرار والحرائر".
ويرى معارضون أنّ سلطات الانقلاب حاولت طمس ذكرى الثورة وتغيير مجرى التاريخ نحو تزييف مسار الديمقراطية، غير أنها أقدمت على تغذية ذاكرة الثوريين واستحضرت المدّ الثوري للشارع الديمقراطي.
وفي هذا الإطار، أكد البرلماني والقيادي في حراك "توانسة من أجل الديمقراطية"، سمير ديلو، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن السلطات "فشلت في طمس عيد الثورة بمنع الاحتفالات والتظاهرات، بل على العكس تماماً احتفل الجميع بعيد الثورة ولكن كلّ بطريقته، وبما اعتاد عليه المتظاهرون بشعاراتهم وأهازيجهم وإصرارهم على الاحتجاج السلمي، والطرف المقابل بالغازات المسيّلة للدّموع والهراوات وخراطيم المياه".
واعتبر ديلو أنّ "رمزية تمسّك التونسيين بالخروج للاحتفال أو الاحتجاج بمناسبة عيد الثورة، على الرغم من المنع والقمع، هي رمزية مزدوجة: إثبات قوة العزيمة والإصرار على تحدي الغطرسة التي تصرّ على منع التونسيين من الاحتفال بعيد ثورتهم، والتأكيد أن سلطة الأمر الواقع كما فشلت اليوم في مصادرة الجغرافيا بإغلاق شارع الثورة، ستفشل في مصادرة تاريخ الثورة الذي قرّر المنقلب تغييره بإرادته المنفردة".
وحول خطورة التوظيف لمؤسسات الدولة الصلبة، وخصوصاً دفع الجهاز الأمني إلى قمع الشعب، حذّر ديلو من أن "اعتماد سياسة القبضة الأمنية بصدد تقويض ما تمّ بناؤه طيلة السنوات الماضية من محاولات لاستعادة الثقة بين المواطنين ورجال الأمن". وتابع أن "هذه خطيئة في حق الجهاز الأمني يرتكبها من يزجّ به في معاركه السياسية لتوطيد حكم لا دستوري".
أما بالنسبة لمستقبل الانقلاب، فاعتبر ديلو أن "مسيرة الجمعة خطوة كبيرة في اتجاه هدم ما بقي من مشروعية مفترضة لسعيّد بعدما تهاوت الشرعية بتعطيل المؤسسات الدستورية المنتخبة والانقلاب على الدستور الذي أقسم عليه قيس سعيّد ولم يحترمه".
إدانات لعنف 14 يناير
ودانت أحزاب وائتلافات سياسية وشخصيات متعددة الاعتداءات والعنف ضد المحتجين بشكل عشوائي. ودانت حركة "النهضة" بشدة، منع المتظاهرين الرافضين لإجراءات سعيّد من "التعبير بحرية عن آرائهم والاعتداء على الرموز السياسية". ونددت الحركة بـ"تسليط أشكال متنوعة من العنف البوليسي ضد المحتجين كالضرب بالهراوات والرش بخراطيم المياه المضغوطة والملوثة واستعمال الغاز المسيل للدموع".
وقال الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي، إن "الاحتجاجات شهدت عنفا يماثل ما كان يمارس خلال نظام الرئيس المعزول زين العابدين بن علي"، مضيفاً في حديث لقناة "الجزيرة"، أن ما شهدته تونس اليوم يدل على "اكتمال الثورة المضادة وعودة الدولة البوليسية".
كما دانت تنسيقية الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية، في بيان، "الاعتداءات الوحشية والهمجية التي طاولت المتظاهرين وعمليات الاختطاف العشوائي التي طاولت عدداً من مناضليها والاستهداف الممنهج بالعنف لقياداتها ونوابها".
وأعلنت أحزاب "التكتل من أجل العمل والحريات" و"الجمهوري" و"التيار الديمقراطي" تنديدها "بهذا القمع الممنهج، وبتطويع وزارة الداخلية لخدمة سلطة الانقلاب"، وتحميلها المسؤولية لـ"رأس سلطة الانقلاب قيس سعيّد ووزير داخليته توفيق شرف الدين". كما أكدت "عزمها تقديم شكوى إلى النيابة العمومية من أجل الاعتداء بالعنف الشديد على المواطنات والمواطنين واختطافهم دون وجه حق في حق وزير داخلية الانقلاب".
ودان "محامون لحماية الحقوق والحريات" في بيان "القمع الوحشي الذي اعتمدته قوات الأمن تجاه المتظاهرين السلميين الذين نزلوا إلى وسط العاصمة"، معتبرين أن "ما حدث من قمع هو استخدام رخيص لأجهزة الدولة ضد الشعب التونسي والزج بها في معارك سياسية".