تشهد الساحة السياسية في تونس جدلاً حول تسريبات صوتية نُشرت في الآونة الأخيرة، وتندرج في إطار الحروب السياسية المتواصلة. وتتباين المواقف بين مؤيد للتسريبات ورافض لها، على الرغم من الإجماع على رفض ما يمسّ الأمور الخاصة، إلا أن مدافعين عن حق المواطن في معرفة ما يدور في قصور الحكم وما يتعلق بالشخصيات العامة، يؤيدون نشرها.
وعرفت تونس عشرات التسريبات الصوتية والتسجيلات المرتبطة بشخصيات سياسية، أدى بعضها إلى الإطاحة بسياسيين وضرب أحزاب وتفكيكها. ومن بين أكثر التسريبات التي تناقلها الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، تلك المتعلقة بمدير الديوان الرئاسي، رئيس حزب "مشروع تونس" محسن مرزوق، والتي كشفت عن خلافات داخل حزب "نداء تونس" وكان لها دور في تفكيكه. وطاول ملف التسريبات المدير التنفيذي لحزب "النداء" حافظ قائد السبسي، نجل الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، وكذلك لرئيس حزب "قلب تونس" مالك قناة "نسمة" نبيل القروي، وأخرى لزعيم حركة "النهضة" راشد الغنوشي. وتم توظيف التسريبات من قبل الخصوم السياسيين لمهاجمة أصحابها واستهداف أحزابهم.
كشف أحد النواب المستقيلين تسريبات متعلقة بسعيّد
وتابع التونسيون أخيراً تسريبات نشرها النائب المستقيل من "ائتلاف الكرامة" راشد الخياري. وكشف في تلك التسريبات ملفات تخصّ قصر الرئاسة ومديرة ديوان الرئيس نادية عكاشة، وأخرى تتعلق بالرئيس قيس سعيّد وكواليس تعيين حكومة هشام المشيشي، وتدخّل السفير الفرنسي السابق أوليفييه بوافر دارفور، والإعلامية نايا القصوري في هذا التعيين، فضلاً عن تسريبات متعلقة برئيس "الكتلة الديمقراطية" محمد عمار. وبعيداً عن صحة هذا الكلام من عدمه، فقد كان له أثر كبير في المشهد السياسي وفي العلاقة بين السلطات. وعلاوة على الجدل الذي أنتجته، فإن تدخل القضاء ودعوة المعنيين بالتسريبات وفتح تحقيقات قضائية زادت من خطورتها.
في السياق، اعتبر المحلل السياسي ماجد البرهومي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن هذه الفضائح لا تليق بدولة ديمقراطية مثل تونس، مضيفاً "ربما كان ذلك مفهوماً في الفترة السابقة للثورة، حين بُنيت السياسات على التنصت والتجسس، ولكن اليوم أصبح أمراً غير مسموح به. فكيف يمكن لمعارضي (الرئيس المخلوع) زين العابدين بن علي بالأمس أن ينتقدوا تنصته على مكالماتهم وجلساتهم، فيما اليوم يسلكون الطريق نفسه ويستعملون الأساليب نفسها لهتك الأعراض والحرمات وكشف الأسرار؟".
واعتبر "أنه يمكن قبول الأمر ربما إذا تعلّق بمؤامرة سياسية، ولكن للأسف نزلنا إلى القاع، وأصبح الحديث عن الأعراض والشرف والمس بتاريخ هذا وذاك"، مشيراً إلى أن "هذه التسريبات تسيء لصورة تونس في الخارج وأضرت بها". وشدّد على أن "ارتباط هذه التسريبات بأزمات الحكم يبيّن أن هناك صراعاً بين طرفين أو أكثر، ويا ليته كان صراعاً من أجل مصلحة الشعب والوطن ومن أجل البرامج، بل صراع لانتزاع مراكز القوى". ونوّه إلى أن "التسريبات زادت من تعميق الأزمة السياسية، فالكفاءات تنفر من الحياة السياسية، والمرأة تعزف عن المشاركة بسبب انتهاك خصوصية المكالمات وأسرار المجالس". ودعا إلى "أخلقة الحياة السياسية ووضع حد لهذا الوضع المتعفن".
في المقابل، اعتبر المحلل السياسي شكري بن عيسى، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أنه "يجب تشجيع هذا الشكل من أشكال التسريبات والتبليغ، لأنه من حق الشعب التونسي معرفة ما يدور من ألاعيب في الخفاء ضده، من الطبقة السياسية الغارقة في المناكفات والتطاحن السياسي والمهملة لصحة الشعب". وبيّن أن "الوضع السياسي متعفن بطبيعته، والحاجة اليوم هي لفهم هذا الوضع، والأطراف التي تحركه". وشدّد على وجوب "إخضاع هذه التسريبات للمعايير الدستورية والقانونية والأخلاقية والإعلامية، من دون الاقتصار على معيار دون آخر، أو باعتماد ازدواجية المعايير". وأكد أنها "تخضع بداية إلى معيار حرية التعبير، وحماية المعطيات الشخصية هي استثناء، وليست الحق الأساسي المنصوص عليه في البند 32 من الدستور الذي يكفل حرية الرأي والفكر والتعبير، ولا يمكن ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحقوق، إذاً فالأصل هو حرية التعبير".
رفض البعض نشر التسريبات بينما اعتبر آخرون انها مرتبطة بحرية التعبير
وأضاف بن عيسى: "ينص الدستور أيضاً على مبدأ شفافية الحياة العامة، وعلى حق المواطن في النفاذ إلى المعلومة والمعطيات التي تهم الشأن العام وليس الشأن الخاص، وبإضافة معيار مكافحة الفساد المالي والسياسي، بينما ما عايناه مسائل تتعلق بشبكات النفوذ واللوبيات". ولفت إلى أن "الجانب المقابل يتعلق بحماية المعطيات الشخصية، أما بالنسبة لمسألة التجسس، فهي جريمة منفصلة عن التسريبات وتحاسب على حدة".
وأكد بن عيسى أن "الأهم هو الوقوف عند أهمية وخطورة محتوى التسريبات التي تمس قضايا تهم الأمن القومي والقرار السيادي والشأن الداخلي وإرادة الشعب، ومسائل تهم إدارة الشأن العام وتعيين رئيس الحكومة". وأضاف "أن الأمر يمكن التطرق له من زاوية المبلغين عن الفساد، والإبلاغ عن الفساد هو واجب قانوني للإعلام بوجوده، خصوصاً إذا شكّل انتهاكاً للأمن القومي أو مساً واعتداء على المسائل الحيوية، أو مساً بالسيادة الوطنية أو انتهاكاً لإرادة الشعب. والإبلاغ عن الفساد هو عنصر من عناصر الديمقراطية وفي غيابه قد تسقط الموازنة الديمقراطية برمتها، وهو (الإبلاغ عن الفساد) يعد من حراس الديمقراطية على غرار الإعلام أيضاً". ورأى بن عيسى أنه لا بد من "الأخذ بعين الاعتبار أن هذه التسريبات موجهة وفي سياق تصريحات مجتزأة، ولكن ما يهمنا، كما في الديمقراطيات، هو أنه يمكن اعتمادها للوصول إلى الحقيقة". وأكد أن "هذه التسريبات لها منفعة وجدوى بقطع النظر عن مسربها الذي قد يكون فاقداً للمصداقية، وما يقوم به قد يكون مدفوع الأجر وقد يكون لصالح طرف سياسي ولوبي، ولكن المعطيات المقدمة بالغة الأهمية".