في سياق متغير، بعد العدوان على غزة وبروز قضية التهجير في القدس المحتلة، وخصوصا بين صفوف حركة التضامن مع فلسطين، بات السجال في الدول الإسكندنافية يتخذ طابعاً أكثر جرأة من السابق في مجال مقاطعة دولة الاحتلال.
ففي كوبنهاغن وقّع عشرات الأكاديميين في جامعة روسيكلد على بيان تأييد حق الفلسطينيين والدعوة إلى مقاطعة أكاديمية لدولة الاحتلال. وأثار بيان الجامعة الدنماركية المندد بالاحتلال والمناصر لفلسطين سفارة الاحتلال في كوبنهاغن، التي طالبت جامعة روسكيلد بسحب بيان التأييد لفلسطين، مرددة تهمة معاداة السامية. وذهب بعض الصحف إلى نشر مقالات المؤيدة لرواية الاحتلال، على اعتبار أن تدخل الجامعة في شأن "صراع سياسي وأخذ موقف مناصر لطرف ضد طرف آخر يعتبر خروجا عن المهام العلمية والأكاديمية للجامعات"، كما نشرت أمس الاثنين "بيرلنغكسا". ويرفض منتقدو الاحتلال حجج سفارة تل أبيب ومؤيديها، خصوصاً في معسكر اليمين المتطرف كما في حزبي "الشعب الدنماركي" و"البرجوازية الجديد". ورد الأخير على الخطوة الأكاديمية بأن خرج اثنان من قادته، بزعامة السياسية المثيرة للجدل، بيرنيلا فيرموند، ليلتقطا صورة مقابل برلمان الدنمارك حاملين علم دولة الاحتلال كتعبير عن رفض توسع الدعوات لمقاطعة الاحتلال وفرض عقوبات دولية.
وأثار ظهور القياديين وتعليقات عنصرية من شخصيات حزب "البرجوازية" (شعبوي) استهجانا على مواقع التواصل لما تحتويه من تعبيرات تدخل في سياق تعريف البند 266 من قانون العقوبات المتعلق بالعنصرية. وتساءل البعض "إذا كان مطلق العبارات العنصرية قبل أيام بوجه عائلة تونسية خرج ليتعذر على الملأ عن عباراته، فيبدو أنه لا شيء يوقف عنصرية السياسيين". وجاءت تلك الردود بعد أن كتب أحد أعضاء الحزب، إلى جانب صورته التي نشرها حاملا علم الاحتلال، مهاجما اللاجئين السوريين بنعوت عنصرية، ما أثار استغراب المعلقين على ربطه بين موقفه المؤيد للاحتلال الإسرائيلي واللاجئين.
بيان الأكاديميين الذي نشرته صحيفة "بوليتيكن" يوم 25 مايو/ أيار، يبدو أنه أثار حنق مؤيدي إسرائيل من ناحية رفض الموقعين عليه، باحثين وأكاديميين ومتخصصين في شؤون الشرق الأوسط، استمرار الاحتلال، وتعبيرهم عن "التضامن مع الفلسطينيين في غزة والضفة وداخل إسرائيل، ومع نحو 7 ملايين لاجئ فلسطيني حول العالم، بمن فيهم هؤلاء الذين يعيشون في الدنمارك ومنهم من هو زميل في الجامعة وطالب وصديق". ورفض البيان ما سماه "استمرار قصف الفلسطينيين والتعامل الوحشي البوليسي معهم ونهب أرضهم وبيوتهم، وهؤلاء لهم الحق في مقاومة الاحتلال والحصار والتمييز العنصري".
سفارة الاحتلال في كوبنهاغن لم يرق لها مشهد تغير النبرة والمواقف في الشارع الدنماركي، فذهب سفيرها، أمس الاثنين، إلى اتهامات للجامعة والموقعين بأنهم "يأخذون موقفا مؤيدا لحماس". وجدير بالذكر أن حركة المقاطعة (بي دي أس) تنشط منذ سنوات في الدنمارك وفي الدول الإسكندنافية، وحاول مؤيدو الاحتلال في معسكر اليمين المتشدد تجريم عملها فلم ينجحوا في ذلك. ويبدو أن الحرب على غزة واتضاح سياسة التهجير في حي الشيخ جراح وغيره في القدس المحتلة، ومشهد التعامل الوحشي مع فلسطينيي الخط الأخضر، باتت تغير كثيراً في مزاج الشارع والسياسيين في هذا الجزء من أوروبا.
في النرويج ذهبت 9 بلديات و5 مجالس محافظات للإعلان عن أنها "لم تعد قادرة على بيع منتجات أو خدمات آتية من المستوطنات
فإلى الشمال ذهبت أوسلو خطوة إضافية، بعد الإعلان أثناء العدوان على غزة عن سحب استثمارات لها من دولة الاحتلال، بإعلان عدد من البلديات النرويجية أنها لن تقبل "بضائع المستوطنات الإسرائيلية". فتحت شعار "لا نريد بضائع من المناطق المحتلة"، ذهبت 9 بلديات و5 مجالس محافظات للإعلان عن أنها "لم تعد قادرة على بيع منتجات أو خدمات آتية من المستوطنات، وإذا كانت الحكومة النرويجية سلبية فعلينا نحن القيام بشيء ما"، بحسب ما أعلن ساسة محليون في تلك البلديات. ولعل أشهر البلديات التي باتت ترفض بضائع المستوطنات هي بلدية تروندهايم، في شمال النرويج، التي شهدت تظاهرات منددة بالعدوان على غزة، وتحت ضغط شعبي اتخذ الساسة المحليون قرارهم بالمقاطعة. وتتوسع عملية المقاطعة منذ 3 أشهر، حيث قررت في 11 فبراير/ شباط الماضي بلدية نامسوس المقاطعة وتبعها مجلس بلدية ساندفيورد في 18 من ذات الشهر.
والبلديات التي قررت مقاطعة كل ما يتعلق بالمستوطنات "غير الشرعية على الأرض الفلسطينية المحتلة"، بما فيها كل خطط الشراء المسبقة، هي تروندهايم ، ترومسو، ليلهامر (التي قتل فيها الموساد صيف 1973 النادل المغربي أحمد بوشيقي، الذي اعتقدت أنه القيادي الفلسطيني الراحل أبو حسن سلامة) ، فاكسدال ، هامار، أوسلو، رايلنجن، نامسوس ، ساندفيورد. هذا بالإضافة إلى خمسة مجالس مقاطعات؛ نوردلاند، ترونديلاغ، فيستفولد وتيليمارك، إنلانديت، فيكين.
ونددت البلديات وحركة المقاطعة بموقف الحكومة النرويجية (يمين وسط محافظ) من القضية الفلسطينية، واعتبرت أنه من حقها كبلديات أن تتخذ قراراها بالمقاطعة.
ونقلت صحيفة "العامل" الدنماركية (النرويجية) (يسارية)، اليوم الثلاثاء، عن عضو مجلس محافظة "فيكين" من حزب اليسار الاشتراكي، بالدر ألفيير أولافستين، قوله إنه "كل يوم يمر يتم طرد المزيد من العائلات الفلسطينية وبناء المزيد من المستوطنات غير القانونية، وهذه سياسة تؤدي إلى تفاقم كل شيء". ويوضح أولافستين أنه "مع مرور الوقت يصبح الحل السلمي الدائم أكثر صعوبة، وما دمنا نسمح لإسرائيل بجني الأموال وانتهاك القانون الدولي فهي سياسة ستستمر".
وصوتت أغلبية في مجلس المحافظة، رغم مساعي مؤيدي الاحتلال لثنيهم عن ذلك، على قرار يقول: "لن تشترى في مقاطعة فيكين السلع أو الخدمات التي يتم إنتاجها في المناطق المحتلة حيث يجرى انتهاك للقانون الدولي. ويجب أن يذكر الموردون الحاليون أنهم يستوفون هذه المتطلبات".
وذكر أولافستين أن "الضفة الغربية وحدها تخسر سنويا 3.4 مليارات دولار بسبب المستوطنات من خلال تسويقها بالتصدير منتجات آتية من الأراضي المحتلة".
بلدية أوسلو اتخذت أيضا نفس النهج بأغلبية المجلس المكون من أحزاب الخضر والاجتماعي الديمقراطي واليسار الاشتراكي لتجنب وصول بضائع مستوطنات مقامة على "الأراضي الفلسطينية المحتلة والتي تعد انتهاكا للقانون الدولي". ورغم ما تعرضت له بلدية أوسلو من هجمات شرسة من اللوبي الصهيوني في عاصمة النرويج، منذ ديسمبر/كانون الأول 2019، إلا أنها مضت في قراراها الذي اعتبرت عضو مجلسها عن حزب اليسار الاشتراكي، سنييفا هولماس إيدسفول، قراراً يتعلق بـ"المسؤولية الأخلاقية والمعنوية"، رغم ما واجهته من حملات منظمة من قبل مجموعة "مع إسرائيل من أجل السلام"، المعروفة اختصارا بـ"ميف"، التي تنشط في سياق الضغط لوقف معاقبة الاحتلال، وتجمع تبرعات وتجند متطوعين لخدمة "دولة إسرائيل بوجه المقاطعة غير القانونية والتمييزية". وتنشط في النرويج والسويد مجموعات صغيرة باتت تعاني صعوبة في تسويق روايتها الصهيونية، وعملت منذ السبعينيات على تجنيد شبان (يهود وغير يهود) للخدمة في جيش الاحتلال، وهو ما سلط تحقيق العربي الجديد الضوء عليه قبل سنوات.
ورغم كل الحجج والمساعي الصهيونية في النرويج، فإن مضي البلديات في مقاطعة بضائع المستوطنات، في سياق جهود حركة المقاطعة الدولية المتزايدة بعد تصنيف منظمات حقوقية للاحتلال بأنها دولة تمييز عنصري، تستند إلى قرار لوزارة الخارجية النرويجية من عام 2018، والذي منح البلديات والمحافظات الحق في مقاطعة البضائع من الأراضي المحتلة. وكررت الخارجية موقفها خلال الشهر المنصرم، مايو/ أيار، برسالة وزير الدولة المحافظ، أودين هالفورسن، إلى مقاطعة ترومسو نيابة عن الخارجية، معتبرا فيها أن "مقاطعة المستوطنات في الأراضي المحتلة لا تتعارض مع التزامات النرويج في القانون التجاري الدولي".
وتتوسع مقاطعة دولة الاحتلال رغم أن حكومة يمين الوسط، برئاسة إيرنا سولبيرغ، لا تؤمن أن المقاطعة الرسمية يمكن أن تساهم بنشر السلام، وتتهمها المعارضة بأن موقفها "مخز". ويرى مؤيدو فرض مقاطعة وسحب الاستثمارات من دول الاحتلال أنها ضرورية وأخلاقية لوقف اقتصاد المستوطنات والضغط على إسرائيل لتغيير سياساتها.