ألقى الرئيس الأميركي جو بايدن، أول من أمس الخميس، خطاب حال الاتحاد الأخير في ولايته التي بدأها في يناير/كانون الثاني 2021، والذي شكّل فرصة له، للتحدث أمام ملايين المواطنين الأميركيين، على بعد أشهر قليلة من انتخابات الرئاسة الأميركية، والتي يتحضر الرئيس الثمانيني لخوضها مجدداً، بمواجهة منافس جمهوري قد يكون على الأرجح للمرة الثانية سلفه دونالد ترامب.
وبينما تنفس الحزب الديمقراطي، الصعداء، بعد إلقاء بايدن خطابه أمام الكونغرس، إذ اعتبروا أن الرئيس الذي يصوّب الجمهوريون على كبر سنّه وزلات لسانه وحتى نسيانه بعض الأمور، كان متماسكاً، ومقنعاً كما أظهرت بعض استطلاعات الرأي، شكّل الخطاب مرة أخرى، مناسبة سلّطت الضوء على ما تواجهه الولايات المتحدة من تحديات داخلية وخارجية، وانقسام حزبي عميق وحاد، حول معظم الملفات.
ورأت تعليقات إعلامية، أن بايدن، الذي يواجه نفوراً شعبياً متزايداً، ألقى خطاباً بلغة "شعبوية"، على نسق سلفه الذي كان الغائب الحاضر الأول في مقر الكونغرس، فيما رأت تعليقات أخرى أن الرئيس اضطر ليدافع حتى عن أهم إنجازاته خلال عهده، ألا وهو الاقتصاد، إذ لا يزال كثير من الأميركيين غير راضين عنه، في ظلّ ارتفاع متواصل للأسعار.
تفادى بايدن الطريق الرئيسية التي توصله إلى الكونغرس، والتي شهدت تظاهرات حاشدة تنديداً بحرب غزة
وفي الوقت الذي كان أسهل على بايدن، أول من أمس، الدفاع عن سياسته الاقتصادية ودعمه لأوكرانيا، مؤكداً أنه لن ينحني أمام نظيره الروسي فلاديمير بوتين، كان من الصعب عليه إقناع الكثيرين داخلياً وخارجياً، في ملف الهجرة غير النظامية على الحدود مع المكسيك، من جهة، لشدّة الاستقطاب والتباين الذي تثيره هذه المسألة في الداخل الأميركي، وكذا في ملف الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ أكثر من خمسة شهور، والسياسة التي انتهجها بايدن تجاهها، والمتناقضة مع توجهات ورغبات أكثرية من الأميركيين.
جو بايدن في "حال الاتحاد": خطاب انتخابي بامتياز
وألقى الرئيس الأميركي الديمقراطي، أول من أمس، خطاب حال اتحاد "انتخابي" بامتياز، شنّ فيه هجوماً لاذعاً على سلفه دونالد ترامب، من دون أن يسمّيه، محذراً من "خطر" الأخير على الديمقراطية والحرّيات في البلاد. وسعى بايدن، خلال 68 دقيقة، نقلتها جميع شبكات التلفزة الأميركية، للتذكير بإنجازات ولايته، لا سيما من ناحية أرقام الاقتصاد الأميركي الذي قال إنه أصبح "موضع حسد العالم"، محدّداً بعض النقاط، كوعود انتخابية للسنوات المقبلة إذا ما فاز في الانتخابات، مثل زيادة الضرائب على الأغنياء، واستكمال إصلاحات النظام الصحي.
وخيّم ملف الهجرة غير النظامية على الحدود البرّية مع المكسيك، على الشأن الداخلي في خطاب حال الاتحاد الأخير الرابع لبايدن والأخير له قبل الانتخابات، لما يؤجّهه هذا الملف، من احتقان داخلي في الولايات المتحدة، وفرصة للجمهوريين للتذكير بفشل إدارة بايدن في ضبط الحدود، والتي تسجّل منذ أشهر أرقاماً قياسية في أعداد العابرين لها، طلباً للجوء والهجرة إلى الولايات المتحدة، وهو ما يندّد به الجمهوريون، ويعتبره ترامب، الساعي إلى ترشيح حزبه مجدداً له للرئاسة، ورقة انتخابية رابحة، في وجه منافسه المحتمل.
بايدن استخدم في الخطاب مصطلح الهجرة غير القانونية، أو غير الشرعية، الذي يستخدمه الجمهوريون
وكان ترامب، الغائب الحاضر، في خطاب بايدن الرابع أمام الكونغرس الأميركي، إذ يُعتبر الرئيس السابق بدوره، "ورقة" بايدن الرابحة، لإقناع الناخبين الديمقراطيين والمستقلين والمتردّدين بالتصويت له في 5 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، لتجنّب عودة عهد ترامب، الذي يمثّل اليمين المتطرف الأميركي بالنسبة لنصف الأميركيين على الأقل. ومن دون أن يسمّيه ولو لمرة واحدة، الخميس، مكتفياً بالإشارة إليه في خطابه كـ"سلفه"، هاجم بايدن خصمه المحتمل الذي وصفه بـ"الخطير"، متهماً الرئيس الجمهوري السابق بـ"الخضوع" لبوتين ومنتقداً إياه بشأن ملفات الحرّيات والديمقراطية والإجهاض والاقتصاد.
وقال بايدن: "منذ عهد الرئيس (أبراهام) لينكولن والحرب الأهلية، لم تكن الحرية والديمقراطية مُعرضتين للهجوم في الوطن كما هو الحال اليوم"، مضيفاً أن "ما يجعل لحظتنا الآن نادرة، هو أن الحرية والديمقراطية تتعرضان للهجوم في الداخل والخارج على حد سواء". وندّد الرئيس الأميركي بتصريحات ترامب الأخيرة حول حلف شمال الأطلسي (ناتو)، والتي عادت لتثير الشكوك حيال التزام واشنطن بالحلف معتبراً إياها "خضوعاً للرئيس الروسي"، ومتعهداً بأنه "لن يخضع".
كذلك أعاد بايدن إحياء ذكرى اقتحام أنصار ترامب مقر الكونغرس في 6 يناير 2021، متهماً سلفه، الذي يواجه دعاوى عدة قانونية، من بينها بتهم التحريض على الاقتحام، بالتستر على حقيقة الهجوم على الكابيتول. وقال بايدن: "سلفي وبعضكم هنا يسعون إلى دفن الحقيقة بشأن 6 يناير. لن أفعل ذلك، لا يمكنكم أن تحبوا وطنكم إلا عندما تفوزون".
وكان بايدن، أقل إقناعاً، عندما تطرق إلى العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. إذ بعد أكثر من 5 أشهر على العدوان الذي أزهق أرواح أكثر من 30 ألف مواطن من غزة، اعترف بايدن نفسه أول من أمس بأن معظمهم من المدنيين، ومن النساء والأطفال خصوصاً، لم يدع بايدن، إسرائيل إلى وقف الحرب، أو يدن جرائمها، أو يلمّح إلى إمكانية عرقلة مدّها بالسلاح، مفضلاً الإبقاء على نهجه ونهج إدارته الذي يسعى إلى قصر الصراع ببعده الإنساني، على أهميته، رغم عدم تحرك واشنطن طوال أشهر لوقف حرب التجويع التي تمارسها إسرائيل ضدّ الغزّيين، تزامناً مع حملتها العسكرية، كاستراتيجية حرب، في محاولة لإخضاع الغزّيين.
كما أن بايدن، لم يحد أول من أمس، عن نهجه الثابت في أن يكون داعماً شرساً لدولة الاحتلال، متجنباً انتقاد رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وانتقاد تسعير الاستيطان، حيث اختار مع اقتراب ولايته التذكير بحلّ الدولتين، كأساس لحل الصراع، والإعلان عن أمره للجيش الأميركي بإنشاء "رصيف بحري" في غزة، لإيصال المساعدات.
تظاهرات غزة تحاصر الكونغرس
وكان بايدن قد حضر إلى مقر الكونغرس، أول من أمس، متفادياً الطريق الرئيسية التي توصله إلى الكونغرس، والتي شهدت تظاهرات حاشدة تنديداً بالحرب الإسرائيلية على غزة، أدّى بعضها إلى إغلاق الطريق، أمام السيارات، إذ اختار الرئيس طريقاً أطول، للالتفاف على الحراك المناهض للحرب.
سعى بايدن إلى مواجهة الرواية القائلة إن عمره يمنعه من البقاء في الحكم
ولم يكن خطاب الاتحاد سوى وجه آخر من هذا "الالتفاف"، حيث يطالب المناهضون للحرب في الولايات المتحدة، وهم أكثرية بحسب ما تظهر استطلاعات الرأي، وغالبيتهم من حزب بايدن، بوقف التسليح الأميركي لإسرائيل، وإجبار دولة الاحتلال على الالتزام بالقوانين الدولية المرتبطة بالحروب، بل حتى فرض خريطة طريق واضحة ومحدّدة زمنياً لحلّ الصراع، وإجبار إسرائيل على إعلان الالتزام بها.
ويخاطر بايدن، انتخابياً، بأصوات ليس فقط الجالية العربية والمسلمة في الولايات المتحدة، بالانتخابات، من خلال موقفه الرافض لوقف دائم لإطلاق النار في غزة، بل أصوات شريحة واسعة من الأقليات، والتقدميين داخل الحزب، والأميركيين الشباب الأكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين.
وأبقى بايدن أول من أمس على نهجه، الذي يحصر الأزمة ببعدها الإنساني، كأحد أوجه التصعيد الذي يجب غلقه، واستكمال الحرب، في منحى يهدف فقط إلى تنفيس الغضب لدى بعض شرائح المجتمع الأميركي من سياسة إدارته، والإحراج الذي تواجهه الدول الكبرى الحليفة لأميركا وإسرائيل.
ودعا بايدن في خطابه، إسرائيل، إلى عدم استخدام المساعدات الإنسانية لغزة كـ"ورقة مساومة"، مشيراً إلى أنه يعمل للتوصل إلى "وقف فوري لإطلاق النار يستمر 6 أسابيع على الأقلّ"، معلناً أنه أمر الجيش الأميركي بإنشاء ميناء مؤقت في القطاع لإيصال المساعدات الإنسانية لغزة. وعلى الرغم من أن الجيش سيقود العملية، أكّد بايدن أن ذلك لا يعني أن الولايات المتحدة ستنشر جنوداً على الأرض في غزة.
وبعد مرور 5 أشهر على بدء الإبادة، توجه بايدن "إلى قيادة إسرائيل" بالقول إنه "لا يمكن للمساعدات الإنسانية أن تكون مسألة ثانوية أو ورقة مساومة"، مضيفاً أن "حماية وإنقاذ أرواح الأبرياء يجب أن تكون الأولوية".
إلى ذلك، تطرق بايدن إلى عدد من المسائل يرى الديمقراطيون أنها قادرة على حشد الأصوات لصالحهم، مثل الاقتصاد وحق الإجهاض. وندّد بايدن في خطابه بالجمهوريين المعارضين للحق في الإجهاض، متعهداً بمواصلة "حماية كل النساء في أميركا". واعتبر أن الاقتصاد الأميركي يعد "أعظم قصة نهوض عرفها العالم"، وذلك على الرغم من أن الأميركيين ما زالوا غير راضين في ظل ارتفاع نسبة التضخم والأسعار، بينما تظهر الاستطلاعات أن كثيرين يرون أن وضعهم الاقتصادي لم يتحسن.
ومصوّباً على عهد ترامب، قال بايدن: "ورثت اقتصاداً كان على حافة الهاوية، الآن أصبح موضع حسد العالم بكل ما للكلمة من معنى"، مؤكداً سعيه لجعل الأثرياء والشركات يدفعون المزيد من الضرائب. ورأت تقارير إعلامية أميركية، في ذلك، استخداماً من بايدن لأفكار شعبوية، تدغدغ توجهات الطبقة الأميركية العاملة.
أفكار شعبوية
كما سعى بايدن أيضاً إلى قلب الطاولة على الجمهوريين في ما يتعلّق بمسألة الهجرة الحسّاسة، منتقداً رفضهم تمرير مشروع قانون كان من شأنه تعزيز الإجراءات الأمنية على الحدود مع المكسيك، ومتهماً ترامب بالضغط على المحافظين لعرقلة التوصل إلى اتفاق.
وفي معرض ردّه على اعتراضات النائبة اليمينية المتطرفة مارغوري تايلور غرين، المؤيدة لترامب، داخل القاعة، قال بايدن إنه "يمكننا التعارك على إصلاح وضع الحدود، أو يمكننا إصلاحها". علماً أن بايدن استخدم في الخطاب، مصطلح الهجرة غير القانونية، أو غير الشرعية، الذي يستخدمه الجمهوريون، وهو ما اضطر نواباً ديمقراطيين، ومن بينهم رئيسة المجلس السابقة نانسي بيلوسي، للتصريح لاحقاً بأنه كان أفضل للرئيس استخدام كلمة مهاجرين "من دون أوراق".
وسعى بايدن الخميس أيضاً، إلى مواجهة الرواية القائلة إن عمره يمنعه من البقاء في الحكم، قائلاً: "أعلم أن الأمر قد لا يبدو كذلك، لكني مولود منذ فترة طويلة، في سنّي تصبح بعض الأمور أوضح أكثر من أي وقت مضى". واحتلت العلاقة مع الصين، حيّزاً صغيراً من خطابه، مقارنة بالأعوام السابقة، بقوله إن واشنطن تريد "منافسة" مع بكين وليس "صراعاً".
وكان ترامب الغائب الحاضر في خطاب حال الاتحاد الأخير لبايدن في ولايته، ليس فقط بسبب هجوم الرئيس الديمقراطي عليه، بل لأن ترامب رافق الخطاب بتعليقات متواصلة على منصته "تروث سوشال"، والتي تعطلت دقائق عدة خلال إلقاء الرئيس كلمته. وكتب ترامب عن بايدن: "يبدو غاضباً جداً عندما يتحدّث، وهي سمة الأشخاص الذين يعلمون أنهم يفقدون عقلهم. الغضب والصراخ لن يساعدا في إعادة التماسك إلى بلادنا". كما ردّ ترامب اتهامات بايدن له بدعم الرئيس الروسي، وكتب: "قال إنني انحنيت للزعيم الروسي. لقد أعطاهم كل شيء، بما في ذلك أوكرانيا".
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز، أسوشييتد برس)